وِلادَةُ الإِمَامِ عَليٍّ الهَادِي(ع)
الإمام أبو الحسن عليّ الهادي (ع) هو الإمام العاشر من أئمة أهل البيت(ع)، وقد ولد في منتصف شهر ذي الحجة سنة «212» هجريّة في محلّ واقع في أطراف المدينة يسمّى «صريا» وأبوه هو الإمام التاسع الجواد (ع) وأمّه هي السيّدة الجليلة «سمانة» وكانت أمة ذات فضيلة وتقوى.
وفي علل الشرايع: كان أطيب الناس مهجة ، وأصدقهم لهجة ، وأملحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صمت عليه هيبة الوقار ، وإذا تكلم سيماء البهاء ، وهو من بيت الرسالة والإمامة ، ومقر الوصية والخلافة شعبة من دوحة النبوة منتضاه مرتضاه ، وثمرة من شجرة الرسالة مجتناه مجتباه ، ولد بصريا من المدينة النصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين .
إِسْمُهُ وَكُنْيَتُه وَأَلْقَابُهُ
جاء في مناقب ابن شهرآشوب : اسمه علي وكنيته أبو الحسن لا غيرهما ، ألقابه النجيب ، المرتضى الهادي ، النقي ، العالم ، الفقيه ، الأمين ، المؤتمن ، الطيب ، المتوكل ، العسكري ويقال له أبو الحسن الثالث ، الفقيه العسكري .
نَبْذَةٌ يَسِيْرَةٌ عَنْ تَارِيْخِه(ع)
هو الإمام العاشر من أئمة أهل البيت(ع)، وقد استلم الإمام الهادي (ع) منصب الإمامة سنة «220» هجرية وذلك بعد استشهاد والده الكريم وقد كان عمره الشّريف آنذاك ثمانية أعوام. واستمرّت فترة إمامته ثلاثاً وثلاثين سنة، وعمّر واحداً وأربعين عاماً وعدّة شهور وفي سنة «245» هجرية استشهد سلام الله عليه.
وقد نقل من شاهد الإمام (ع): انّه كان متوسّط القامة وذا وجه ابيض اللّون مشرّباً بحمرة وذا عيون كبيرة وحواجب واسعة، واسارير وجهه تبعث على الفرح والسّرور.
وقد عاصر خلال حياته سبع حكومات من الخلفاء العبّاسيّين، فكان قبل إمامته معاصراً للمأمون والمعتصم اخ المأمون، وفي أثناء إمامته عاصر ما تبقّى من حكومة المعتصم، وحكومة الواثق ابن المعتصم، والمتوكّل أخ الواثق، والمنتصر ابن المتوكّل، والمستعين ابن عمّ المنتصر، والمعتزّ وهو الابن الآخر للمتوكلّ. ثمّ استشهد في عصر المعتزّ.
وفي أثناء حكم المتوكّل جاءوا بالإمام (بأمر من هذا الطّاغية) من المدينة الى سامراء الّتي كانت آنذاك مركز حكم العبّاسيّن، وأقام فيها الإمام الى آخر عمره الشّريف.
وأبناء الإمام (عليه السلام) هم: الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (عليه السلام)، والحسين ومحمّد وجعفر وبنت واحدة تُسّمى « عليّة »
سُلوك خُلَفاء بَني العبّاس
الخلفاء العبّاسيون هم كأسلافهم الغاصبين لم يدّخروا جهداً لقمع أهل بيت النّبي (ص) وتلويث سمعتهم، وحاولوا بكلّ ما أوتوا من قوّة ان يشوّهوا الصّورة النقيّة لقادة المسلمين الحقيقيّين ويسقطوهم عن منزلتهم الرّاقية، واستعملوا الدّسائس المختلفة لأبعاد أولئك الكرام عن مقام قيادة النّاس ومحو حبّ الأمّة لهم...
وحِيَل المأمون العبّاسيّ للوصول الى هذا الهدف لإظهار حكومته بمظهر الشّرعيّة والقانونية واستلام منصب القيادة واخفاء شمس الإمامة، ليست مخفيّة على المطّلعين على تاريخ الأئمة(عليهم السلام) والخلفاء، فبعد المأمون استمرّ المعتصم العبّاسيّ في نفس تلك الخطط والمؤامرات الّتي كان ينفذها سلفه في أهل بيت النّبوّة والإمامة ومن هنا فقد استقدم الإمام الجواد (ع) من المدينة الى بغداد وجعله تحت المراقبة الشّديدة ثمّ بالتّالي أدّى به الى القتل، وسجن أيضاً بعض العلويّين بذريعة انّهم لم يرتدوا الملابس السّوداء (وهي الملابس الرّسميّة للعبّاسيّين) حتّى ماتوا في السّجن (أو قتلهم) وقد مات المعتصم في سامرّاء عام «227» هجري فحلّ محلّه في الحكم ابنه الواثق، واقتفى اثر ابيه المعتصم وعمّه المأمون.
وكان الواثق مثل سائر الخلفاء المتظاهرين بالإسلام مرفّهاً وشرّاباً للخمر، وكان مفرطاً في هذه المجالات بحيث كان يلجأ لتناول بعض العقاقير الخاصّة لتوفّر له امكانية الاستمرار في لذّاته، وكانت هذه العقاقير هي التي أدّت به في نهاية الأمر الى الموت فمات في سامرّاء سنة «232» هجريّة.
وسلوك الواثق مع العلويّين لم يكن قاسياً ولهذا السّبب تقاطر العلويّون وآل أبي طالب على سامرّاء في زمانه واجتمعوا فيها وقد عاشوا في رفاه نسبي خلال تلك الفترة، ولكنّهم تفرقوا خلال حكم المتوكّل.
وبعد الواثق جاء أخوه المتوكّل وأصبح خليفة، ويعتبر من اكثر الحكّام العبّاسيّين انحطاطاً وسقوطاً وأشدّهم جريمة، وقد عاصر الإمام الهادي (ع) المتوكّل اكثر من سائر الخلفاء العبّاسيّين، واستمرّت فترة معاصرته له اكثر من أربعة عشر عاماً كانت هذه الفترة الطّويلة من أصعب وأقسى السّنين في حياة هذا الإمام الكريم واتباعه المخلصين، وذلك لانّ المتوكّل كان من اكثر خلفاء بني العبّاس كفراً وكان رجلاً خبيثاً وساقطاً، وكان قلبه مملوءاً بالحقد والعداوة لأمير المؤمنين عليّ (ع) وأهل بيته الكرام وشيعته، وقد واجه العلويّون في ظلّ حكومته القتل أو دسّ السّم أوانّهم فرّوا وتواروا عن الانظار.
وكان المتوكّل يحثّ النّاس (بواسطة نقل أحلام له ورؤى كاذبة) على اتّباع «محمّد بن إدريس الشّافعي» الّذي كان ميّتاً في زمانه، وكان هدفه من هذا هو صرف النّاس عن اتبّاع الأئمة.
وفي سنه «236» هجرية أمر بهدم قبر سيّد الشهداء الإمام الحسين (ع) وهدم ما حوله من الدّور وان يعمل مزارع، ومنع النّاس من زيارته، وخُرّب وبقي صحراء.
وكان خائفاً من ان يغدو قبر الإمام الحسين قاعدة ضدّه، ومن ان يصبح نضاله واستشهاده (ع) ملهماً لتحرك ونهوض شعبيّ في مقابل ظلم خلافته، اِلاّ انّ الشّيعة ومحبيّ سيّد الشّهداء لم يكفّوا إطلاقاً وتحت أي ظرف من الظّروف عن زيارة تلك البقعة الطّاهرة، حتّى انّه قد نُقل انّ المتوكّل قد هدّم ذلك القبر الشّريف سبع عشرة مرّة، وهدّد الزّائرين بمختلف التّهديدات وجعل مخفرين للمراقبة في أطراف القبر، ومع كلّ هذه الجرائم فانّه لم يفلح في صرف النّاس عن زيارة سيّد الشّهداء، فقد تحمّل الزّائرون مختلف أصناف التّعذيب والإيذاء وواصلوا الزّيارة، وبعد قتل المتوكّل عاد الشّيعة بالتّعاون مع العلويّين لتعمير وإعادة بناء قبر الإمام الحسين (عليه السلام)
وقد أغضب المسلمين هدمُ قبر الإمام الحسين (ع)، فراح أهل بغداد يكتبون الشّعارات المضادّة للمتوكّل على الجدران وفي المساجد، ويهجونه بواسطة الشّعر.
وقد اطلق المتوكّل يديه في نهب بيت مال المسلمين كسائر الخلفاء، وكان مسرفاً كما كتب المؤرّخون في تاريخ حياته، حيث بنى القصور المتعدّدة والمتنوّعة، وأنفق على «برج المتوكّل» (الّذي لا يزال قائماً اليوم في سامرّاء) مليوناً وسبعمائة ألف دينار من الذّهب.
أجل انّ جنون المتوكّل في الايذاء والجريمة قد بلغ الذّروة حتّى انّه في بعض الاحيان كان هو بنفسه يعترف بذلك !
يقول الفتح بن خاقان (وهو وزيره):
دخلت يوماً على المتوكّل فرأيته مطرقاً متفكّراً فقلت: يا أمير المؤمنين ! ما هذا الفكر ؟ فوالله ما على ظهر الارض أطيب منك عيشاً ولا أنعم منك بالاً. فقال: يا فتح أطيب عيشاً منّي رجل له دار واسعة وزوجة صالحة ومعيشة حاضرة لا يعرفنا فنؤذيه ولا يحتاج الينا فنزدريه.
وقد بلغ ايذاء المتوكّل وتعذيبه لاهل بيت النبيّ (ص) الى الحدّ الّذي كان يعذّب فيه النّاس ويعاقبهم بذنب المحبّة والاتّباع للأئمة الكرام، ولهذا فقد أصبح الأمر صعباً جدّاً على أهل بيت الطّهارة.
وعيّن المتوكّل عمر بن فرح الرخجي والياً على مكة والمدينة، وكان يكفّ النّاس عن الإحسان الى آل أبي طالب ويتشدّد كثيراً في هذا الأمر فامتنع النّاس خوفاً على أنفسهم عن بذل الرّعاية والحماية للعلويّين وأمست الحياة صعبة جدّاً على أهل بيت أمير المؤمنين عليّ (ع)
دَعْوَةُ الإِمَامِ الهَادِي(ع) إِلَى سَامُرّار
كان المتوكل يشعر بحقد مرير وعداوة مضاعفة لأهل بيت أمير المؤمنين عليّ (ع) ممّا كان يدفعه للمزيد من التشّدد والتضييق عليهم، ومن هنا فقد عقد العزم على نقل الإمام الهادي (ع) من المدينة الى مكان قريب منه حتّى يراقبه عن كثب.
وهكذا أبعد المتوكلُ الإمام في عام «234» هجرية من المدينة الى سامرّاء بصورة محترمة، وأسكنه في بيت مجاور لمعسكره، وأقام الإمام في هذا البيت حتّى آخر عمره الشّريف، اي الى سنة «254»، هجرّية وقد احتفظ بالإمام دائماً تحت مراقبته الشّديدة، وسار على منهجه هذا الخلفاء الّذين جاّءوا من بعده، فكلّ واحد منهم كان يراقب الإمام بصورة شديدة حتّى استشهاده(ع)
وكان سبب شخوص أبي الحسن (ع) من المدينة الى سرّ من رأى ان عبد الله بن محمّد كان يتولّى الحرب والصّلاة في مدينة الرّسول بأبي الحسن الى المتوكّل، وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن (ع) سعايته به فكتب الى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمّد عليه وكذبه فيما سعى به، فتقدّم المتوكل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه الى حضور العسكر على جميل من الفعل والقول فخرجت نسخة الكتاب وهي:
«بسم الله الرّحمن الرّحيم أما بعد، فانّ أمير المؤمنين ! عارف بقدرك راع لقرابتك موجب لحقّك، مؤثر من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم ويثبت به عزّك وعزّهم ويدخل الأمن عليك وعليهم يبتغي بذلك رضا ربّه واداء ما فرض عليه فيك وفيهم.
فقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمّد عمّا كان يتولّى من الحرب والصّلاة بمدينة الرّسول، اذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذيّ قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في برّك وقولك وأنّك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمّد بن الفضل وأمره با كرامك وتبجيلك والانتهاء الى أمرك ورأيك، والتقرّب الى الله والى أمير المؤمنين بذلك، وأمير المؤمنين مشتاق اليك، يحبّ احداث العهد بك والنّظر الى وجهك.
فان نشطت لزيارته والمقام قبله ما احببت، شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل اذا شئت وتنزل اذا شئت وتسير كيف شئت، فان أحببت ان يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ! ومن معه من الجند يرحلون برحيلك، يسيرون بمسيرك، فالأمر في ذلك اليك وقد تقدّمنا اليه بطاعتك.
فاستخر الله حتّى توافي أمير المؤمنين ! فما احد من اخوته وولده وأهل بيته وخاصّته الطف منه منزلة ولا أحمد له اثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم اشفق وبهم أبرّ واليهم اسكن منه اليك والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته»
ولا شكّ في انّ الإمام كان مطلّعاً على سوء نيّة المتوكّل ولكنّه لم يكن له بدّ من الرّحيل الى سامرّاء، وذلك لانّ امتناعه عن تلبية دعوة المتوكّل يغدو وثيقة بيد السّاعين يثيرون المتوكّل بها ويصبح ذريعة مناسبة له، والشّاهد على انّ الإمام كان عالماً بنيّة المتوكّل وقد اضّطر للسّفر هو ما كان يقوله (ع) فيما بعد في سامّراء: «أخرجت الى سرّ من رأى كُرهاً»
فلمّا وصل الكتاب الى أبي الحسن (ع) تجهّز للّرحيل وخرج معه يحيى بن هرثمة حتّى وصل سرّ من رأى، فلمّا وصل اليها تقدّم المتوكّل بان يُحجب عنه في يومه، فنزل في خان يقال له خان الصّعاليك (وهو مكان معدّ للمستجدين والفقراء) وأقام به يومه، ثمّ تقدّم المتوكّل بافراد دار له فانتقل إليها. واحترمه في الظّاهر ولكنّه في الخفاء حاول تشويه سمعة الإمام اِلاّ انّه لم ينجح في ذلك.
وقد لقي الإمام الهادي (ع) اشدّ العناء والعذاب خلال فترة اقامته في سامرّاء، ولا سيّما من المتوكّل حيث كان يتعرّض باستمرار للتّهديد والإيذاء منه ويواجه الخطر الجسيم والنماذج التي تذكرها لا حقاً تدل على الوضع الخطير. للإمام في سامرّاء وتصلح شاهداً على مدى تحمّله وصبره ومقاومته في مقابل الطّواغيت الظّالمين. يقول الصقر بن أبي دلف الكرخي: لمّا حمل المتوكّل سيّدنا أبا الحسن العسكريّ (ع) جئت اسأل عن خبره، قال: فنظر اليّ الزّرافي (وكان حاجباً للمتوكّل) فأمر ان ادخل إليه فأدخلت إليه، فقال: يا صقر ما شأنك ؟ فقلت: خير أيّها الاستاذ، فقال: اقعد فأخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلت: اخطأت في المجيء.
قال: فوحى النّاس عنه ثمّ قال لي: ما شأنك وفيم جئت ؟
قلت: لخبر مّا، فقال: لعلّك تسأل عن خبر مولاك ؟ فقلت له: ومن مولاي ؟ مولاي أمير المؤمنين!، فقال: اسكت! مولاك هو الحقّ فلا تحتشمني فانّي على مذهبك، فقلت: الحمد الله.
قال: أتحبّ ان تراه ؟ قلت: نعم، قال: اجلس حتّى يخرج صاحب البريد من عنده.
قال: فجلست فلمّا خرج قال لغلام له: خذ بيد الصّقر وأدخله الى الحجرة الّتي فيها العلويّ المحبوس، وخّلّ بينه وبينه، قال: فأدخلني الى الحجرة وأومأ الى بيت فدخلت فاذا هو جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور، قال: فسلّمت عليه فردّ عليّ ثمّ أمرني بالجلوس ثمّ قال لي: يا صقر ما أتى بك ؟ قلت: سيّدي جئت اتعرّف خبرك ؟ قال: «ثمّ نظرت الى القبر فبكيت فنظر اليّ فقال يا صقر لا عليك لن يصلوا الينا بسوء الان، فقلت: الحمد الله».
(ثمّ سألته عن حديث مرويّ عن النبيّ (ص) فأجابني) ثمّ قال (ع): ودّع واخرج فلا آمن عليك.
قال المسعودي في مروج الذّهب:
سعي الى المتوكّل بعليّ بن محمّد الجواد (عليهما السلام) انّ في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وانّه عازم على الوثوب بالدّولة فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا على داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ووجدوه في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرّمل والحصى وهو متوجّه الى الله تعالى يتلو آيات من القرآن.
فحمل على حاله تلك الى المتوكّل وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشّرب فدخل عليه والكأس في يد المتوكّل، فلمّا رآه هابه وعظمه وأجلسه الى جانبه وناوله الكأس الّتي كانت في يده، فقال: والله ما يخامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني فأعفاه، فقال: أنشدني شعراً، فقال (ع): انّيّ قليل الرّواية للشّعر، فقال: لابدّ، فأنشده (ع) وهو جالس عنده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرّجال فلم تنفعهم القلـل
واستُنزلوا بعد عزّ من معاقلهم وأُسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهـم صارخ من بعد دفنهـم أين الأساور والتّيجان والحلـل
أين الوجـوه الّتي كانت منعّمـة من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين سائلهم تلك الوجوه عليها الدّود تقتتـل
قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا
قال: فبكى المتوكّل حتّى بلّت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون، ودفع الى علي (ع) أربعة آلاف دينار، ثمّ ردّه الى منزله مكرّماً.
ومرّة اخرى هاجموا دار الإمام: فقد مرض المتوكّل مرضاً اشرف منه على التّلف، فوصف له الإمام دواءً لعلاجه، وعوفي بسبب تناوله ذلك الدّواء. وبُشّرت امّ المتوكّل بعافيته فحملت الى أبي الحسن (ع) عشرة آلاف دينار تحت ختمها.
فلمّا كان بعد أيّام سعى البطحائيّ بأبي الحسن (ع) الى المتوكّل فقال: عنده سلاح و أموال، فتقدّم المتوكّل الى سعيد الحاجب ان يهجم ليلاً عليه ويأخذ ما يجد عنده من الاموال والسّلاح ويحمل اليه.
فقال ابراهيم بن محمّد: قال لي سعيد الحاجب: صرت الى دار أبي الحسن بالّليل، ومعي سلّم فصعدت منه الى السّطح، ونزلت من الدّرجة الى بعضها في الظّلمة، فلم ادر كيف اصل الى الدار فناداني أبو الحسن (ع) من الدّار: يا سعيد مكانك حتّى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن آتوني بشمعة فنزلت فوجدت عليه جبّة من صوف وقلنسوة منها وسجّادته على حصير بين يديه و هو مقبل على القبلة فقال لي: دونك بالبيوت.
فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة مختومة بخاتم امّ المتوكّل وكيسا مختوماً معها، فقال أبو الحسن (ع): دونك المصلّى فرفعت فوجدت سيفا في جفن غير ملبوس، فأخذت ذلك وصرت اليه.
فلّمّا نظر الى خاتم امّه على البدرة بعث اليها، فخرجت اليه، فسألها عن البدرة، فأخبرني بعض خدم الخاصّة انّها قالت له: كنت نذرت في علّتك ان عوفيت ان احمل اليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها اليه وهذا خاتمك على الكيس ما حركّها. وفتح الكيس الاخر وكان فيه أربع مائة دينار، فأمر ان يضمَّ الى البدرة بدرة أخرى وقال لي: احمل ذلك الى أبي الحسن واردد عليه السّيف والكيس بما فيه، فحملت ذلك اليه واستحييت منه، وقلت: يا سيّدي عزّ عليّ بدخول دارك بغير اذنك، ولكنّي مأمور به، فقال لي: (وَسَيعلَمُ الّذّينَ ظَلَمُوا اَيَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ)
واخيراً فقد انتهت الحكومة الغاشمة للمتوكّل، فبتحريض من ابنه «المنتصر» قامت مجموعة من الأتراك المسلّحين بقتله وقتل وزيره الفتح بن خاقان بينما كانا منهمكين في شرب الخمر واللّهو وبذلك تطهّرت الأرض من وجوده المنحطّ.
واستلم المنتصر في صبيحة تلك الّليلة الّتي قتل فيها المتوكّل مقاليد الخلافة وأمر بهدم بعض قصور أبيه ولم يؤذ العلويّين وإنّما اظهر الرّأفة والعطف عليهم وأجاز زيارة قبر الإمام الحسين (ع)، وأبدى للزّائرين الخير والإحسان وأصدر أمره بإعادة «فدك» إلى أولاد الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام)، ورفع الخطر عن الأوقاف العائدة الى آل أبي طالب وكانت فترة خلافة المنتصر قصيرة فقد امتدّت ستّة اشهر فحسب، وتوفّي في عام «248» هجري.
وانتقلت الخلافة من بعده الى ابن عمّه «المستعين» وهو حفيد المعتصم، وقد سلك طريقة الخلفاء السّابقين، وفي أثناء حكمه نهضت مجموعة من العلويّين وانتهى بها الأمر الى القتل.
ولم يستطع المستعين الصّمود في وجه تمرّد الا تراك من جيشه، فأستخرج المتّمرّدون المعتزّ من السّجن وبايعوه. وبذلك ارتفع نجم المعتزّ واضطرّ المستعين ليبدي استعداده للصّلح معه وصالحه المعتزّ بحسب الظّاهر واستدعاه إلى سامرّاء ولكنّه في وسط الطّريق أمر به فقتل.
وقد جرت سيرة المستعين على اطلاق أيدي بعض المقرّبين إليه وزعماء الأتراك في نهب المال والعبث به حسب ما تقتضيه اهواؤهم ولكنّه كان يسلك مع أئمّتنا المعصومين (عليهم السلام) سلوكاً مُشينا جدّاً وقاسيا، وبناءً على بعض الرّوايات فانّه قد تعرّض للّعن من قبل الإمام الحسن العسكري (ع) وانتهت حياته
وبعد المستعين استلم الخلافة «المعتزّ» وهو ابن المتوكّل واخ المنتصر. وكان موقفه من العلويّين سيئاً جدّاً. وخلال حكمه تعرّضَت طائفة من العلويّين للقتل أودُسّ اليها السُّم. وفي زمانه أيضاً استشهد الإمام الهادي (ع).
وأخيراً فقد واجه المعتزّ تمردّاً اشترك فيه زعماء الاتراك وآخرون وعزلوه عن الحكم وضُرب وجُرح على أيديهم ثمّ القوا به في سرداب وأغلقوا عليه بابه حتّى هلك في داخله.
مُحَاصَرَةُ الإِمَامِ (ع) وَاسْتِشْهَادُهُ:
كانت علاقة الأمّة بالإمام محدودة جدّاً، فانّ حكومة ذلك أجبرت الإمام الهادي (ع) على الرحيل من المدينة الى مركز الخلافة حينذاك، أي سامرّاء، وجعلته تحت الرقابة الشديدة، ومع كلّ الضغوط المسلّطة عليه فانّ الإمام (ع) تحمّل الآلآم والمحدوديّات المفروضة عليه ولم يستسلم لرغبات الظالمين ، وهكذا فان الإمام الهادي (ع) لم يرحل عن الدّنيا بواسطة الموت الطّبيعيّ، وانّما قد سُمّ في خلافة المعتزّ العبّاسي، وفي الثّالث من شهر رجب سنة «254» هجريّة ارتحل الى الرّفيق الأعلى ودفن في داره الواقعة في سامرّاء.
وقد حاول المعتزّ وبطانته اظهار أنفسهم بمظهر المحبّين والمخلصين للإمام فاشتركوا في مراسم الصّلاة على الإمام ودفنه ليستغّلوا هذا الأمر لأغراضهم الوضيعة ويخدعوا العوام ويغطّوا على جريمتهم النّكراء، لكنّنا نحن الشّيعة نعتقد انّ جثمان الإمام لابدّ ان يصلّي عليه إمام معصوم، ولهذه فانّه قبل اخراج الجثمان الطّاهر للإمام فقد قام بالصّلاة عليه ابنه الإمام الحسن العسكريّ (ع) ثمّ بعد أن أخرجت الجنازة أمر المعتزّ أخاه أحمد بن المتوكّل بإقامة الصّلاة على جثمان الإمام في شارع «أبي أحمد». وهبّ النّاس للمشاركة في تشييع الإمام وازدحمت بهم الشّوارع وارتفع البكاء والنّحيب، وبعد انتهاء المراسم أُعيدت الجنازة الى بيت الإمام (ع) ودفن فيه جثمانه سلام الله وصلواته عليه وعلى آبائه الطّاهرين.
تَلامِذَةُ الإِمَامِ (ع):
1 ـ عبد العظيم الحسني:
كان من كبار الرّواة والعلماء، وله مقام رفيع في الزّهد والتّقوى، وقد ادرك بعض الاصحاب الكبار للإمام السّادس والإمام السّابع والإمام الثّامن(عليهم السلام)، وهو يُعدّ من أنجب تلامذة الإمامين الجواد والهادى (عليهما السلام) ومن أشهر الرّواة عنهما.
«كان عبد العظيم ورد الرّيّ هارباً من السّلطان وسكن سَرَباً في دار رجل من الشّيعة في سكّة الموالي وكان يعبد الله في ذلك السّرَب (حفيرة تحت الأرض) ويصوم نهاره ويقوم ليله وكان يخرج مستتراً فيزور القبر المقابل قبره وبينهما الطّريق ويقول هو قبر رجل من ولد موسى (ع)، فلم يزل يأوي إلي ذلك السّراب ويقع خبره الى واحد بعد واحد من شيعة آل محمّد(عليهم السلام) حتّى عرفه اكثرهم، فرأى رجل من الشّيعة في المنام رسول الله (ص) قال له ان رجلا من ولدي يحمل من سكّة الموالي ويدفن عند شجرة التّفاح في باغ عبد الجبّار بن عبد الوهّاب، واشار الى المكان الّذي دفن فيه، فذهب الرّجل ليشتري الشّجرة والمكان من صاحبها، فقال لأيّ شيء تطلب الشّجرة ومكانها؟ فأخبره الرّؤيا، فذكر صاحب الشّجرة انّه كان رأى مثل هذه الرّؤيا وانه قد جعل موضع الشّجرة مع جميع الباغ وقفاً على القبر الشّريف والشّيعة يدفنون فيه.
فمرض عبد الظيم ومات (رحمه الله) فلمّا جرّد ليغسل وجد في جيبه رقعة فيها ذكر نسبه»
وقد حدثت وفاة عبد العظيم في مرحلة الإمام الهادي (ع)، ويمكننا ان نتعرّف على علوّ شخصيّته الإلهيّة من خلال هذه الرّواية التي ينقلها محمّد بن يحيى العطّار:
سأل الإمام الهادي رجلاً من أهالي مدينة الري جاءه زائراً فقال له: اين كنت؟
قال: كنت ذاهباً الى زيارة قبر الإمام الحسين، فقال له الإمام: كن على علم بأنّك لوزرت قبر عبد العظيم الموجود في مدينتكم لكنت كمن زار قبر الإمام الحسين
ويُعدّ عبد العظيم من أوثق علماء الشّيعة ورواتهم في زمان الأئمّة(عليهم السلام)، وقد كان من جملة المؤلّفين أيضاً، ونُقل انه ألّف كتابا حول خطب أمير المؤمنين (ع) وكتاباً آخر يُسّمى بـ«اليوم واللّيلة »
2- الحسين بن سعيد الاهوازي:
وهو من أصحاب الإمام الرّضا والإمام الجواد والإمام الهادي (عليهم السلام) وقد نقل الأحاديث عن جميع هؤلاء الكرام، وهو في الأصل من أهالي الكوفة، ولكنّه انتقل مع اخيه الى الاهواز ثمّ جاء من هناك الى قم، وفي قم رحل عن هذا العالم.
والمعروف ان الحسين بن سعيد ألّف ثلاثين كتاباً في الفقه والاداب والاخلاق، وكتبه مشهورة متداولة بين العلماء، وكما يقول المرحوم المجلسي الاوّل: يلاحظ اتّفاق العلماء على وثاقته والعمل برواياته. ويقول في حقّه العلاّمة: انّه محلّ وثوق وهو من اعيان العلماء وكان جليل القدر.
3- الفضل بن شاذان النّيشابوري:
كان رجلاً عظيماً ومورداً للاعتماد وفقيها كبيراً ومتكلّماً متضلّعاً. وقد ادرك مجموعة من كبار أصحاب الأئمّة، من قبيل محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى، وعاشرهم ما يناهز الخمسين عاماً، وانتفع بمعاشرتهم كما يقول هو: عندما توفّي هشام بن الحكم اصبح خليفته يونس بن عبد الرّحمان، وعندما توفّي هذا أصبح خليفة في ردّ المخالفين السكّاك، وأمّا الان فأنا خليفتهم
وقد ألّف الفضل بن شاذان كتباً كثيرة بحيث قال البعض انها تصل الى مائة وثمانين كتابا، ومن جملتها كتاب «الايضاح» الّذيّ هو في علم الكلام وتحليل عقائد اصحاب الحديث، وقد طبعته جامعة طهران في عام «1392» هجري قمري.
واهتمّ العلماء الكبار بأقوال وآثار الفضل بن شاذان، وكان العلماء يكتفون بقوله في ردّ أو قبول الرّواة. وأولى المرحوم الكليني عناية خاصّة لبعض كلماته وآرائه في كتاب الكافي. واهتّم بها كثيراً المرحوم الصّدوق والشّيخ الطّوسي كذلك.