نَسَبُ الإِمَامِ عَليّ بنِ الحُسَيْن وَوِلادَتُه (ع)
هو الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم.
وقد وُلد الإمام زين العابدين(ع) يوم الخميس في الخامس من شهر شعبان سنة 38 للهجرة، وقد تمت ولادته في حياة أمير المؤمنين علي(ع).
فعاصر جده علياً(ع) سنتين، وعمه الحسن المجتبى عشر سنين، وأباه الحسين الشهيد عشر سنين، وعاش بعد أبيه الحسين ثلاثاً وثلاثين سنة على وجه التقريب.
فعن الإمام الصادق(ع) قال: ولد علي بن الحسين (ع)في سنة ثمان وثلاثين من الهجرة قبل وفات علي بن أبي طالب (ع)بسنتين ، وأقام مع أمير المؤمنين سنتين ، ومع أبي محمد الحسن (ع)عشر سنين ، وأقام مع أبي عبد الله (ع)عشر سنين ، وكان عمره سبعا وخمسين سنة .
أُمُّ الإِمَامِ زَيْنِ العَابِدِيْن(ع)
اختلف المؤرخون في هويتها، فقال صاحب كشف الغُمة إن اسم أمه غزالة(أم ولد)، وكذا قال ابراهيم بن إسحاق، وقال الحافظ عبد العزيز إن اسمها(سلامة) وقيل: إن اسمها شاه زنان بنت يزدجرد، وعلى أي حال فمهما كان إسمها فهي امرأة مؤمنة وعالية الشأن عند الله عز وجل.
وقيل هي خولة بنت يزدجرد ملك فارس ، وهي التي سماها أمير المؤمنين (ع)شاه زنان ، ويقال : بل كان اسمها برة بنت النوشجان ، ويقال : كان اسمها شهر بانو بنت يزدجرد .
عن أبي جعفر (ع)قال : لما قدمت ابنة يزدجرد ابن شهريار آخر ملوك الفرس وخاتمتهم على عمر ، وأدخلت المدينة استشرفت لها عذاري المدينة ، وأشرق المجلس بضوء وجها... وعرض عليها عمر أن تختار فجالت فوضعت يدها على منكب الحسين (ع)فقال : ما اسمك يا صبية ؟ قالت جهان شاه ، فقال بل شهر بانويه ، قالت : تلك أختي قال : صدقت ثم التفت إلى الحسين فقال : احتفظ بها وأحسن إليها ، فستلد لك خير أهل الأرض في زمانه بعدك ، وهي أم الأوصياء الذرية الطيبة ، فولدت علي بن الحسين زين العابدين.
ويروى أنها ماتت في نفاسها به ، وإنما اختارت الحسين عليه السلام لأنها رأت فاطمة (ع)وأسلمت قبل أن يأخذها عسكر المسلمين ، ولها قصة وهي أنها قالت : رأيت في النوم قبل ورود عسكر المسلمين كأن محمدا رسول الله (ص)دخل دارنا وقعد مع الحسين (ع)وخطبني له وزوجني منه ، فلما أصبحت كان ذلك يؤثر في قلبي وما كان لي خاطر غير هذا ، فلما كان في الليلة الثانية رأيت فاطمة بنت محمد (ص)قد أتتني وعرضت علي الاسلام فأسلمت ثم قالت : إن الغلبة تكون للمسلمين ، وإنك تصلين عن قريب إلى ابني الحسين سالمة لا يصيبك بسوء أحد قالت : وكان من الحال أني خرجت إلى المدينة ما مس يدي انسان .
حَمْلُ المَعصُوْمِ وَوِلادَتُه
هناك خصوصيات خاصة لأهل العصمة(ع) لا يمكن إنكارها بوجه من الوجوه إذا كانت صحيحة غير موضوعة من المغالين وغيرهم، فإن لأئمتنا(ع) شأناً خاصاً عند رب العزة جل وعلا، ومما لا شك فيه هو أنهم قد امتازوا عن غيرهم حتى ببعض الأمور التكوينية، ولا نقول بأنهم خرجوا عن التكوين لأن ذلك كفر واضح.
فعن عبد الله بن إبراهيم الجعفري ، قال : سمعت إسحق بن جعفر ، يقول : سمعت أبي ، يقول : الأوصياء إذا حملت بهم أمهاتهم ، أصابهن فترة شبه الغشية ، فأقامت في ذلك يومها ، ذلك إن كان نهارا ، أو ليلتها إن كان ليلا ، ثم ترى في منامها رجلا ، يبشرها بغلام ، عليم ، حليم ، فتفرح لذلك ، ثم تنتبه من نومها ، فتسمع من جانبها الأيمن في جانب البيت صوتا يقول : حملت بخير وتصيرين إلى خير وجئت بخير أبشري بغلام ، حليم ، عليم ، وتجد خفة في بدنها ، ثم تجد بعد ذلك إتساعاً من جنبيها وبطنها ، فإذا كان لتسع من شهورها ، سمعت في البيت حساً شديدا ، فإذا كانت الليلة التي تلد فيها ، ظهر لها في البيت نور ، لا يراه غيرها إلا أبوه ، فإذا ولدته ، ولدته قاعدا تفتحت له ، حتى يخرج متربعا ، ( ثم ) يستدير بعد وقوعه إلى الأرض ، فلا يخطئ القبلة حيث كانت بوجهه...
أَلْقَابُهُ وكُنَاهُ(ع)
لُقِّب الإمام علي بن الحسين(ع) بألقاب عديدة لمناسبتها لمقامه الرفيع وشأنه الشريف ومكانته عند الله ورسوله والأئمة والصالحين، وأشهر ألقابه الشريفة: زين العابدين ، وسيد العابدين ، وزين الصالحين ووارث علم النبيين ، ووصي الوصيين ، وخازن وصايا المرسلين ، وإمام المؤمنين ومنار القانتين ، والخاشع ، والمتهجد ، والزاهد ، والعابد ، والعدل ، والبكاء والسجاد ، وذو الثفنات ، وإمام الأمة ، وأبو الأئمة:
وأما كناه: فمنها: أبو الحسن، وأبو محمد، وقيل أبو القاسم.
سَبَبُ لَقَبِهِ بِزَيْنِ العَابِدِيْن
جاء في كتاب(كشف الغمة) : كان سبب لقبه بزين العابدين : أنه كان ليلة في محرابه قائما في تهجده فتمثل له الشيطان في صورة ثعبان ليشغله عن عبادته ، فلم يلتفت إليه ، فجاء إلى إبهام رجله فالتقمها ، فلم يلتفت إليه فألمه ، فلم يقطع صلاته ، فلما فرغ منها وقد كشف الله له فعلم أنه شيطان فسبه ولطمه وقال : اخسأ يا ملعون ، فذهب ، وقام إلى إتمام ورده ، فسمع صوتا ولا يرى قائله ، وهو يقول : أنت زين العابدين ثلاثا ، فظهرت هذه الكلمة واشتهرت لقبا له:
سَبَبُ لَقَبِهِ بِالسَّجّاد
عن جابر الجعفي ، قال : قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر (ع): إن أبي علي بن الحسين ما ذكر لله عز وجل نعمة عليه إلا سجد ، ولا قرأ آية من كتاب الله عز وجل فيها سجود إلا سجد ، ولا دفع الله عز وجل عنه سوءا يخشاه أو كيد كائد إلا سجد ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد ولا وفق لاصلاح بين اثنين إلا سجد ، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده ، فسمي السجاد لذلك .
ذُوْ الثّفَنَات
عن محمد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر ، عن آبائه ، عن الباقر (ع)قال : كان لأبي (ع)في موضع سجوده آثار ناتئة وكان يقطعها في السنة مرتين ، في كل مرة خمس ثفنات ، فسمي ذا الثفنات لذلك .
قال الجوهري : الثفنة واحدة ثفنات البعير ، وهو ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما .
إِمَامَتُهُ(ع)
قال ابن شهرآشوب : الدليل على إمامته (ع)ما ثبت أن الامام يجب أن يكون منصوصا عليه ، فكل من قال بذلك قطع على إمامته ، وإذا ثبت أن الامام لابد أن يكون معصوما يقطع على أن الامام بعد الحسين ابنه علي (ع)لان كل من ادعيت إمامته بعده من بني أمية والخوارج اتفقوا على نفي القطع على عصمته وأما الكيسانية وإن قالوا : بالنص فلم يقولوا بالنص صريحا، ووجدنا ولد علي بن الحسين (ع)اليوم على حداثة عصره وقرب ميلاده أكثر عددا من قبايل جاهلية ، وعماير قديمة حتى طبقوا الأرض ، وملؤا البلاد وبلغوا الأطراف ، فعلمنا أن ذلك من دلائله .
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، قال : كنت عند الحسين بن علي (ع)إذ دخل علي بن الحسين الأصغر ، فدعاه الحسين (ع)وضمه إليه ضما ، وقبل ما بين عينيه ثم قال : بأبي أنت ما أطيب ريحك ؟ وأحسن خلقك ؟ فتداخلني من ذلك فقلت : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله إن كان ما نعوذ بالله أن نراه فيك فإلى من ؟ قال : علي ابني هذا هو الإمام أبو الأئمة قلت : يا مولاي هو صغير السن ؟ قال : نعم ، إن ابنه محمد يؤتم به وهو ابن تسع سنين ثم يطرق قال : ثم يبقر العلم بقرا .
الإِمَامُ السَّجَّادُ بَعْدَ اسْتِشْهَادِ أَبِيْهِ الحُسَيْن(ع)
من لحظة استشهاد الإمام الحسين(ع) انتقلت الإمامة إلى ولده زين العابدين الذي كان له أكبر المواقف وأجرؤها بعد ارتكاب الأمويين تلك المجزرة البشعة في حق الإسلام الذي كان يمثّله أهل البيت(ع).
لقد تابع الإمام السجاد(ع) مهام الإمامة على أتم وجه، وواجه كل المخاطر واجتاز جميع الصعوبات وتخطى كل العراقيل التي وضعها النظام الحاكم في وجهه.
لقد شاهد الإمام السجاد كل ما حدث في كربلاء وقبلها، ولكنه لم يحمل السيف لأنه كان مريضاً قد سقط عنه الجهاد، وليس ذلك سوى شأن من شؤون الله التي الذي حفظ الرسالة بحفظ الإمام زين العابدين الذي لو قاتل في كربلاء لقُتل ولم يبق بعده أئمة هدى.
لقد اعتقل في كربلاء وقِيْد مكبَّلاً مربوطاً ببطن الناقة في الحادي عشر من شهر محرم الحرام عام واحد وستين للهجرة، فسيّر نحو العراق ثم نحو الشام حيث بدأ إتمام ثورة أبيه من هناك.
مُعْجِزَةُ دَفْنِ الأَجْسَاد
استشهد الحسين وأهل بيته وأصحابه عصر العاشر من محرم، وسبيت بنات الرسول ومعهم زين العابدين في الحادي عشر، وكان زين العابدين مريضاً لا يقدر على الوقوف بسبب شدة مرضه، وفي الثالث عشر من الشهر نفسه كان الإمام زين العابدين(ع) معتقلاً ومربوطاً، فكيف يا تُرى جاء إلى أرض الطف ودفن أباه والأصحاب بمساعدة بني أسد؟ هذا سؤال يطرحه الكثيرون، ولكننا نجيبهم بهذا الجواب: ليس ذلك على الله بعزيز: ولا شك بأن الله تعالى قد أجرى المعجزة هناك على يد هذا الإمام العظيم الذي ملأت كراماته وبركاته الأرض.
تَنْبِيْه الضَّمَائِرِ فِيْ وَسَطِ الكُوْفَة
عندما وصل ركب السبايا إلى الكوفة كانت نظرة الناس إليهم تختلف عما حصل بعد ساعات، ففور وصول الركب إلى الكوفة شرعت زينب (ع) ومن كان معها ببيان الحقيقة وكشف الأقنعة عن الوجوه عبر تلك الخطب البليغة والمؤثرة التي ألقتها في مجلس ابن زياد، وبدوره الإمام زين العابدين(ع) كان له دور بارز في بيان الحق وتنبيه الضمائر التي أماتها حب الدنيا والخوف من السلطة.
فبينما كان أهل الكوفة يضجون بالبكاء والنحيب خجلاً من كلمات العقيلة زينب أشار إليهم الإمام ليسكتوا فسكت النّاس، فقام فحمد الله وأثنى عليه وصلى عليه النبي (ص) وقال: أيها النّاس... أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من نُهب ماله وسُبي عياله، أنا ابن من قُتلَ مظلوماً عند شط الفرات، بلا دم أراق، ولا حق أضاع.
أيها الناس… بالله عليكم أما كتبتم الى أبي تدعونه ليجيء الكوفة فلما جاءكم قتلتموه؟
أيها النّاس: كيف بكم اذ رأيتم رسول الله (ص) يوم القيامة يقول لكم قتلتم أهل بيتي ولم ترقبوا حرمتي فلستم من أمتي؟
فاضطرب أهل الكوفه لسماعهم كلمات الإمام (عليه السلام) وهاجوا وماجوا، يبكون ويتلاومون ان هلكتم وأنتم لا تعلمون.
وهكذا نبّه الإمام الضمائر الغافية من رقدتها، وصوّر عظمة الفاجعة وأفهم أهل الكوفة ضخامة فعلهم.
وحُملت حرم الإمام الحسين (عليه السلام) الى قصر ابن زياد وما أن رأى ابن زياد الإمام حتى قال: من هذا؟ قالوا: علي بن الحسين. قال: أو لم يقتل الله عليّا؟ فقال الإمام (ع): كان لي أخ اسمه عليّ قتله النّاس. قال ابن زياد: بل قتله الله.
قال الإمام (ع): اللهُ يَتَوَفَّى الاَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِها)
فقال ابن زياد: أما زالت فيك جرأة ترد بها عليَّ؟ وأمر بقتله مغروراً، فاعترضت طريقه زينب الكبرى (عليها السلام) وهي تقول: ما أبقيت لنا من أحد فان عزمت على قتله فاقتلني معه، فقال لها الإمام (ع): لا تقولي له شيئاً. أنا أكلمه.
ثم التفت الى ابن زياد وقال: يا ابن زياد ! أبالموت تهددني وتخوفني؟ ألم تعلم ان الموت لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة.
مَوَاقِفُ الإمام زَيْنِ العَابِدِيْن(ع) في الشَّام
قال بعضهم: كنت في الشام حين جيء بسبايا آل محمّد (ص) وكان في سوق الشام مسجد تحفظ فيه الاسرى، فتقدم شيخ من أهل البلاد منهم وقال: الحمد لله الذي أهلككم وأطفأ الفتنة ـ واكثر من الكلام البذيء. فلما فرغ من كلامه قال له الإمام زين العابدين (ع): سمعت مقالتك واَبنتَ لي عن العداء والضغن الذي في قلبك فاسمع مني كما سمعت منك، قال: قل، قال (ع): فهل قرأت القرآن؟ قال: قد قرأت.
قال(ع): فهل قرأت (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه أجْراً اِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قال: قرأتها.
قال (ع) فنحن القُربى يا شيخ، ثم قال (عليه السلام): فهل قرأت (آتِ ذَا القُرْبى حَقَّهُ) قال الشيخ بلى قرأتها، قال (ع): فنحن ذووالقربى، الذين أمر الله نبيه بايتائهم حقهم، فقال الرجل: أأنتم هم؟ قال الإمام (ع): بلى. فهل قرأت آية الخمس (وَاعْلَمُوا أنَّ ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيء فَاَنَّ للهِِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى)
قال: بلي قرأتها، قال (ع): فنحن هم. فهل قرأت آية التطهير (إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرَّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّركُمْ تَطْهيراً)
فرفع الشيخ يديه نحو السماء وقال: رباه تبتُ اليك... قالها ثلاثاً، الهي تبت اليك من عِداء آل الرسول (ص)، وأبرأ اليك من قتلتهم، قد قرأت القرآن من قبل فما علمت ذلك.
الإمامُ(ع) في مَسْجِدِ الشَّامِ
أمر يزيد يوماً أحد الخطباء ليرقى المنبر ويسبَّ علياً وابنه الحسين وينال منهما، فرقى الرجل المنبر، وأطلق لسانه فيهما يسبهما شر سباب وينعتهما باقبح النعوت ويثني على يزيد ومعاوية.
وكان الإمام (ع) حاضراً فصاح: الويل لك أيها الرجل اشتريت رضى المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النّار.
ثم التفت الى يزيد وقال: دعني أرتقي هذه الاعواد فأقول ما يرضي الله ويُنال به الأجر والثواب.
فامتنع يزيد باديء الامر، وأصرّ عليه النّاس ليقبل فقال: انّه ان ارتقاه فلن ينزل منه الاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان، فقالوا له: وما ذا بوسعه ان يقول؟ قال: انّه من أهل بيت زقوا العلم زقّا وارتضعوه ارتضاعاً.
فأصر النّاس على يزيد أكثر فقبل، وارتقى الإمام المنبر فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي (ص) ثم خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب ، فقال فيها : أيها الناس ، أعطينا ستا ، وفضلنا بسبع ، أعطينا العلم والحلم والسماحة ، والفصاحة والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين ، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمد (ص)، ومنا الصديق ، ومنا الطيار ، ومنا أسد الله وأسد رسوله ، ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنا سبطا هذه الأمة ، وسيدا شباب أهل الجنة ، فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي ؛ أنا ابن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الرداء وأعطاها إلى الفقراء والمساكين ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حج ولبى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسري ! أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلى ، فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : " أشهد أن لا إله إلا الله " .
أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله (ص)بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين .
أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين ، من آل يس ، ورسول رب العالمين .
أنا ابن المؤيد بجبرائيل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب واستجاب لله من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين الله ، وولي أمر الله ، وبستان حكمة الله ، وعيبة علم الله ، سمح سخي ، بهلول زكي ، أبطحي رضي ، مرضي مقدام ، همام صابر صوام ، مهذب قوام ، شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرق الأحزاب ، أربطهم جنانا ، وأطلقهم عنانا ، وأجرأهم لسانا ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدهم شكيمة ، أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة ، وقربت الأعنة ، طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، وصاحب الإعجاز ، وكبش العراق ، الإمام بالنص والاستحقاق ، مكي مدني ، أبطحي تهامي ، خيفي عقبي ، بدري أحدي ، شجري مهاجري . من العرب سيدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين ، الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كل طالب ، غالب كل غالب ، ذاك جدي علي بن أبي طالب (ع).
أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيدة النساء ، أنا ابن الطهر البتول ، أنا ابن بضعة الرسول .
قال : ولم يزل يقول : " أنا أنا " حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن تكون فتنة ، فأمر المؤذن أن يؤذن ، فقطع عليه الكلام وسكت ، فلما قال المؤذن : " الله أكبر " قال علي بن الحسين : كبرت كبيرا لا يقاس ، ولا يدرك بالحواس ، لا شئ أكبر من الله ، فلما قال : " أشهد أن لا إله إلا الله " قال علي (ع)شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي ، ومخي وعظمي ، فلما قال : " أشهد أن محمدا رسول الله " ، التفت علي من على المنبر إلى يزيد وقال : يا يزيد ، محمد هذا جدي أم جدك ؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت ، وإن قلت : إنه جدي ، فلم قتلت عترته ؟ قال : وفرغ المؤذن من الأذان والإقامة ، فتقدم يزيد وصلى صلاة الظهر
حُزْنُهُ عَلى أَبِيْه(ع)
في مناقب ابن شهرآشوب :عن الصادق (ع) قال: بكى علي بن الحسين (ع)عشرين سنة ، وما وضع بين يديه طعام إلا بكى ، حتى قال له مولى له : جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف أن تكون من الهالكين ، قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ، إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة .
وكان إذا أخذ إناء يشرب ماء بكى حتى يملاها دمعا ، فقيل له في ذلك فقال : وكيف لا أبكي ؟ وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقا للسباع والوحوش .
وعن أبي عبد الله (ع)قال : البكاؤن خمسة : آدم ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمد ، وعلي بن الحسين (ع)فأما آدم : فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية ، وأما يعقوب : فبكى على يوسف حتى ذهب بصره ، وحتى قيل له : " تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين " وأما يوسف : فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا : إما أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل ، وإما أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار ، فصالحهم على واحد منهما ، وأما فاطمة (ع)بنت محمد (ص): فكبت على رسول الله(ص) حتى تأذى بها أهل المدينة ، وقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك ، فكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف ، وأما علي بن الحسين (ع): فبكى على الحسين عشرين سنة أو أربعين سنة وما وضع بين يديه طعام إلا بكى ، حتى قال له مولى له : جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة .
الحُكَّامُ فِيْ عَصْرِ الإِمَامِ(ع)
عاصر الإمام السجاد(ع) العديد من الحكام الظالمين الذين ملأوا الأرض ظلماً وجوراً باسم الإسلام الذي غصبوا خلافته، وقد كان تاريخهم وصمة عار على الأمة في قبال التاريخ المشرق الذي صنعه خلفاء الحق وأئمة الهدى(ع).
ففي العام الثاني والستين من الهجرة وبعد مقتل سيد الشهداء الإمام الحسين خرج جمع من أهل المدينة الى الشام فدخلوها وشاهدوا يزيد عن قرب يشرب الخمر ويلهو مع الكلاب ويقضي ليله في اللهو واللعب والفجور، فعادو وحدّثوا النّاس بالخبر وكان مقتل الإمام الحسين (ع) قد أحزن أهالي المدينة فرفعوا لواء الثورة، فبعث يزيد جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة لقمع الخارجين عليه فاغار الجيش على المدينة ثلاثة أيام ونهبوا الدور وأباحوا الدماء وقتلوا عشرة الآلاف رجل، ولم يتورعوا عن ارتكاب أقبح الجرائم وأشنعها.
وبعد موت يزيد في العام الرابع والستين من الهجرة، استوى على مقعد الحكم بعده ابنه معاوية، لكنّه بعد مدة قصيرة ـ أربعين يوماً أو ثلاثة أشهر ـ عاد فارتقى المنبر وأعلن استقالته وتنازله عن الحكم.
وكان عبد الله بن الزبير طامعاً في الخلافة منذ أمد غير قصير، فأعلن الثورة بموته، وبايعه عليها أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وتصدّى لمخالفته مروان بن الحكم الذي كان قد احتال للاستيلاء على الحكم، فتمكن بشتى الحيَلْ من إخضاع الشام ومصر لسلطانه وادخالهما تحت نفوذه، ولم يلبث حتى مات، فخلفه من بعده ابنه عبد الملك.
ثم تولى عبد الملك بن مروان الحكم في العام الخامس والستين من الهجرة، وبعد تثبيت أقدامه حاصر عبد الله بن الزبير في مكّة في العام الثالث والسبعين الهجري فاعتقله ثم أمر به فقتل.
وكان عبد الملك رجلاً قاسي القلب بخيلاً ظالماً، قال يوماً لسعيد بن المسيب صرتُ لا اُحب الخير ولا أبغض القبيح فقال له سعيد: فقد مات قلبك اذن.
وقال في خطبة خطبها بعد مقتل عبد الله بن الزبير: ما دعاني أحد الى التقوى اِلا ضربت عنقه.
ومن عظيم جناياته انّه أسند الى الحجّاج بن يوسف ولاية البصرة والكوفة، والحجاج من أبطش رجال بني امية وأعظمهم سفكاً للدماء كان يعشق القتل والظلم فكان يعذّب النّاس وينكّل بهم ويقتلهم خصوصاً شيعة علي ، وقد قتل في فترة ولايته ما يقرب من مئة وعشرين ألف رجل.
وكان عبد الملك شديد المراقبة للإمام وقد جهد ليظفر منه ما يتمسك به ذريعة للنّيل منه.
تزوج الإمام السجّاد (ع) جارية له كان قد اعتقها نفسه فعلم عبد الملك الخبر فكتب له كتابا يعرّض به فقال:
:بلغني تزويجك مولاتك وقد علمت انّه كان كان في اكفائك من قريش من تمجّد به في الصهر وتستنجيه في الولد فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت والسلام:
فكتب اليه الإمام جواباً على ما جاء في كتابه:
:أما بعد فقد بلغني كتابك تعنفي بتزويجي مولاتي وتزعم انّه كان في نساء قريش من أتمجّد به في الصهر واستنجبه في الولد وانّه ليس فوق رسول الله (ص) مرتقى في مجد ولا مستزاد في كرم انّما كانت ملك يميني خرجت حتى أراد الله عزّ وجلّ مني بأمر التمس به ثوابه ثم ارتجعتها على سنة، ومن كان زكيّا في دين الله فليس يخل به شيء من أمره وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة وتمم به النقيصة:
أراد عبد الملك تحقير الإمام (ع) وإدخال الرعب في قلوب النّاس والحيلولة دون أي نشاط فبعث وراءه من يأتي به بعنف، فجيء به ثم أعاده الى المدينة.
وبعد موت عبد الملك في العام السادس والثمانين الهجري خلفه ابنه ـ الوليد ـ وكان رجلاً ظالماً جبّاراً، وقال في أول خطبة خطبها في النّاس: » ايّما أحد تطاول قتلناه ومن يسكت قتله سكوته.
وكان الوليد كغيره من الولاة الظلمة يخشى الإمام (ع) و ذيوع صيته في النّاس وينزعج لعظم مقامه وعلوّ منزلته، وكان يحذر ان يلتف النّاس حوله ويهدّوا سلطانه، فلم يطق تحمل وجوده في جماعة المسلمين فكاد له حتى دس له السم وقضى مسموماً.
وبالتأمل في أوضاع الفترة التي قضاها الإمام السجّاد (عليه السلام) إماماً حيث الأزمات الاجتماعية، و التيارات المتضاربه، وولاة الجور الظلمة، والمراقبة الشديدة له، وفقدان الموالين المخلصين المضحين يتضح لنا انّه ما كان له سبيل سوى الصراع السلبي وتربية الموالين والتلامذة المخلصين ونشر مسائل العلم والأخلاق.
رآه أحدهم في طريق مكة حاجاً فقال له: تركت سبيل الجهاد وعورته وأخذت طريف الحج؟ فقال (ع): لو وجدنا اتباعاً مضحين لكان الجهاد خيراً منه:
الإمَامُ السجّادُ(ع) ونَشْرُ العِلْم فِي المُجْتَمَع
كان هم الإمام(ع) أن يبعث في نفوس الناس روح العلم والمعرفة، وقد جنّد لتلك المهمة عشرات العلماء من أهل الوعي والحكمة والفكر النيّر لينشروا تعاليم الله تعالى بين الناس، وكان من أبرزهم:
سعيد بن المسيّب، وقد وصفه الإمام بقوله:أعلم النّاس بما تقدمه من الاثار، وأفهمهم في زمانه:
أبو حمزة الثمالي: قال فيه الإمام الرضا(ع): أبو حمزة سلمان زمانه.
سعيد بن جبير، وقيل في حقه: ليس على وجه الأرض من هو مستغن عن علم ابن جبير، وقد إعتقله رجال الحجاج يوماً، وجاءوا به عنده، فقال الحجاج: انت شقي بن كسير لا سعيد بن جبير: فقال سعيد: إن اُمي اعلم حينما سمتني سعيداً: فقال الحجاج: فما ترى في أبي بكر وعمر في الجنة أم في النار؟ قال سعيد: فقال سعيد: اذا دخلت الجنة ورأيت أهلها فسوف أعلم من هم أهلها، وان وردت النّار ورايت اهلها فسوف اعرفهم: فقال الحجاج: ما ترى في الخلفاء؟ قال سعيد: لستُ موكلا بهم، الحجاج: فأيهم تحبه اكثر من غيره، سعيد: من كان أرضاهم لله، الحجاج: فأيهم أرضاهم لله؟ فقال سعيد: الله العالم بالخفايا والأسرار يعلم ذلك: ...
الإمام(ع) وبِنَاءُ الكَعْبة بَعْد هَدْمِهَا
عن أبان بن تغلب قال : لما هدم الحجاج الكعبة فرق الناس ترابها فلما صاروا إلى بنائها فأرادوا أن يبنوها ، خرجت عليهم حية ، فمنعت الناس البناء حتى هربوا فأتوا الحجاج ، فخاف أن يكون قد منع بناها ، فصعد المنبر ثم نشد الناس وقال : رحم الله عبدا عنده مما ابتلينا به علم لما أخبرنا به ، قال : فقام إليه شيخ فقال : إن يكن عند أحد علم فعند رجل رأيته جاء إلى الكعبة فأخذ مقدارها ثم مضى ، فقال الحجاج : من هو ؟ فقال علي بن الحسين (ع)فقال : معدن ذلك فبعث إلى علي بن الحسين (ع)فأتاه فأخبره بما كان من منع الله إياه البناء ، فقال له علي بن الحسين: يا حجاج عمدت إلى بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته كأنك ترى أنه تراث لك ، اصعد المنبر وأنشد الناس أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئا إلا رده ، قال : ففعل وأنشد الناس أن لا يبقى منهم أحد عنده شئ إلا رده قال : فردوه ، فلما رأى جمع التراب أتى علي بن الحسين (ع) فوضع الأساس وأمرهم أن يحفروا ، قال : فتغيبت عنهم الحية ، فحفروا حتى انتهوا إلى موضع القواعد ، قال لهم علي بن الحسين (ع): تنحوا ، فتنحوا فدنا منها فغطاها بثوبه ثم بكى ثم غطاها بالتراب بيد نفسه ، ثم دعا الفعلة فقال : ضعوا بناءكم قال : فوضعوا البناء ، فلما ارتفعت حيطانها أمر بالتراب فألقي في جوفه فلذلك صار البيت مرتفعا يصعد إليه بالدرج .
الإمامُ السَّجَادُ(ع) والحَسَنُ البَصْرِي
روي أن زين العابدين (ع) مر بالحسن البصري وهو يعظ الناس بمنى ، فوقف عليه ، ثم قال : أمسك أسألك عن الحال التي أنت عليها مقيم أترضاها لنفسك فيما بينك وبين الله للموت إذا نزل بك غدا ؟ قال : لا قال : أفتحدث نفسك بالتحول والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك إلى الحال التي ترضاها ؟ قال : فأطرق مليا ، ثم قال : إني أقول ذلك بلا حقيقة قال : أفترجو نبيا بعد محمد (ص) يكون لك معه سابقة ؟ قال : لا ، قال : أفترجو دارا غير الدار التي أنت فيها ترد إليها فتعمل فيها ؟ قال : لا ، قال : أفرأيت أحدا به مسكة عقل رضي لنفسه من نفسه بهذا ، إنك على حال لا ترضاها ولا تحدث نفسك بالانتقال إلى حال ترضاها على حقيقة ولا ترجو نبيا بعد محمد (ص) ولا دارا غير الدار التي أنت فيها فترد إليها فتعمل فهيا ، وأنت تعظ الناس ؟ قال : فلما ولى (ع) قال الحسن البصري : من هذا ؟ قالوا : علي بن الحسين قال : أهل بيت علم ، فما رؤي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس .
الإمامُ السَّجَادُ(ع) وعَبْدُ الملِك حَوْلَ الكَعْبَة
روي عن الباقر عليه السلام أنه قال : كان عبد الملك يطوف بالبيت وعلي بن الحسين يطوف بين يديه ولا يلتفت إليه ولم يكن عبد الملك يعرفه بوجهه فقال : من هذا الذي يطوف بين أيدينا ولا يلتفت إلينا ؟ فقيل : هذا علي بن الحسين (ع)، فجلس مكانه ، وقال : ردوه إلي فردوه فقال له : يا علي بن الحسين إني لست قاتل أبيك ، فما يمنعك من المصير إلي ؟ فقال علي بن الحسين(ع): إن قاتل أبي أفسد بما فعله دنياه عليه ، وأفسد أبي عليه بذلك آخرته ، فان أحببت أن تكون كهو فكن:
الإمامُ(ع) وسَلاسِلُ الحَدِيْد
عن ابن شهاب الزهري قال : شهدت علي بن الحسين (ع) يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام ، فأثقله حديدا ووكل به حفاظا في عدة وجمع فاستأذنتهم في التسليم والتوديع له ، فأذنوا فدخلت عليه ، والأقياد في رجليه والغل في يديه ، فبكيت وقلت : وددت أني مكانك وأنت سالم ، فقال : يا زهري أو تظن هذا بما ترى علي وفي عنقي يكربني ؟ أما لو شئت ما كان فإنه وإن بلغ بك ومن أمثالك ليذكرني عذاب الله ، ثم أخرج يديه من الغل ورجليه من القيد ثم قال : يا زهري لا جزت معهم على ذا منزلتين من المدينة ، قال : فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكلون به يطلبونه بالمدينة فما وجدوه ، فكنت فيمن سألهم عنه ، فقال لي بعضهم : إنا نراه متبوعا ، إنه لنازل ، ونحن حوله لا ننام نرصده إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديده ، فقدمت بعد ذاك على عبد الملك فسألني عن علي بن الحسين فأخبرته فقال : إنه قد جاءني في يوم فقده الأعوان ، فدخل علي فقال : ما أنا وأنت ؟ ! فقلت : أقم عندي ، فقال : لا أحب ، ثم خرج فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة ، قال الزهري : فقلت : ليس علي بن الحسين(ع) حيث تظن إنه مشغول بنفسه فقال : حبذا شغل مثله فنعم ما شغل به .
قَصِيْدَةُ الفَرَزْدَقِ الخَالِدَة في حَقِّ الإمامِ السَّجَاد(ع)
حج هشام بن عبد الملك فلم يقدر على الاستلام من الزحام ، فنصب له منبر فجلس عليه وأطاف به أهل الشام فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين (ع) وعليه إزار ورداء ، من أحسن الناس وجها وأطيبهم رائحة ، بين عينيه سجادة كأنها ركبة عنز ، فجعل يطوف فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحى الناس حتى يستلمه هيبة له ، فقال شامي : من هذا يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا أعرفه ، لئلا يرغب فيه أهل الشام فقال الفرزدق وكان حاضرا : لكني أنا أعرفه ، فقال الشامي : من هو يا أبا فراس ؟ فأنشأ قصيدة ذكر بعضها في الأغاني ، والحلية ، والحماسة ، والقصيدة بتمامها هذه :
يا سائلي أين حل الجود والكرم عندي بيان إذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم أمست بنور هداه تهتدي الأمم
هذا الذي أحمد المختار والده صلى عليه إلهي ما جرى القلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه لخر يلثم منه ما وطئ القدم
هذا علي رسول الله والده هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي عمه الطيار جعفر والمقتول حمزة ليث حبه قسم
هذا ابن سيدة النسوان فاطمة وابن الوصي الذي في سيفه نقم
إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وليس قولك : من هذا ؟ بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت عن نيلها عرب الاسلام والعجم
يغضي حياءا ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
ينجاب نور الدجى عن نور غرته تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
بكفه خيزران ريحه عبق من كف أروع في عرنينه شمم
ما قال : " لا " قط إلا في كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم
مشتقه من رسول الله نبعته طابت عناصره والخيم والشيم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا حلو الشمائل تحلو عنده نعم
إن قال قال بما يهوى جميعهم وإن تكلم يوما زانه الكلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
الله فضله قدما وشرفه جرى بذاك له في لوحه القلم
من جده دان فضل الأنبياء له وفضل أمته دانت لها الأمم
عم البرية بالاحسان وانقشعت كفر وقربهم منجى ومعتصم
كلتا يديه غياث عم نفعهما يستو كفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه خصلتان : الحلم والكرم
لا يخلف الوعد ميمونا نقيبته رحب الفناء أريب حين يعترم
من معشر حبهم دين وبغضهم عنها العماية والاملاق والظلم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ويستزاد به الاحسان والنعم مقدم
بعد ذكر الله ذكرهم في كل فرض ومختوم به الكلم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ذا فالدين من بيت هذا ناله الأمم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم خيم كريم وأيد بالندى هضم
لا يقبض العسر بسطا من أكفهم سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
أي القبائل ليست في رقابهم لأولية هذا أوله نعم
من يعرف الله يعرف أولية والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
بيوتهم في قريش يستضاء بها في النائبات وعند الحكم أن حكموا
فجده من قريش في أرومتها محمد وعلي بعده علم
بدر له شاهد والشعب من أحد على الصحابة لم أكتم كما كتموا
وخيبر وحنين يشهدان له وفي قريضة يوم صيلم قتم
مواطن قد علت في كل نائبة والخندقان ويوم الفتح قد علموا
فغضب هشام ومنع جائزته وقال : ألا قلت فينا مثلها ؟ قال : هات جدا كجده وأبا كأبيه واما كأمه حتى أقول فيكم مثلها ، فحبسوه بعسفان بين مكة والمدينة فبلغ ذلك علي بن الحسين (ع)فبعث إليه باثني عشر ألف درهم وقال : اعذرنا يا أبا فراس ، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به ، فردها وقال : يا ابن رسول - الله ما قلت الذي قلت إلا غضبا لله ولرسوله ، وما كنت لأرزأ عليه شيئا ، فردها إليه وقال : بحقي عليك لما قبلتها فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك ، فقبلها ، فجعل الفرزدق يهجو هشاما وهو في الحبس
شَهَادَةُ الإمامِ السَّجَاد(ع)
تأزَّم الوضع بعد موت عبد الملك بن مروان، واستلام الوليد ابنه زمام الأُمور، حيث بقي الإمام زين العابدين (عليه السلام) مواصلاً لخطواته الإصلاحية بين صفوف الأُمّة الإسلامية، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر.
ممّا أقضَّ مضاجع قادة الحكم الأموي، بسبب عدم تَمَكُّنهم من الاستمرار في أهدافهم التحريفية للرسالة الإلهية.
وقد كان الوليد من أحقد الناس على الإمام (عليه السلام)، لأنّه كان يرى أنّه لا يتمّ له الملك والسلطان مع وجود الإمام (عليه السلام)، الذي كان يتمتَّع بشعبية كبيرة، حتّى تحدّث الناس بإعجاب وإكبار عن علمه، وفقهه، وعبادته.
وعجّت الأندية بالتحدُّث عن صبره وسائر ملكاته (عليه السلام)، واحتلَّ مكاناً كبيراً في قلوب الناس وعواطفهم، فكان السعيد من يحظى برؤيته، ويتشرَّف بمقابلته، والاستماع إلى حديثه.
وقد شقَّ على الأُمويين عامّة هذا الموقع المتميّز للإمام (عليه السلام)، وأقضَّ مضاجعهم، فقرروا قتله، فسرعان ما تبرّم هذا الحاكم من حركة الإمام(ع) التي أثمرت في توسيع القاعدة الشعبية والفكرية المتعاطفة معه. فاعتقله وأحضره إلى دمشق مقيداً، لكن قوّة شخصية الإمام (ع) أثارت الاحترام في نفس السلطان فأمر بإطلاقه وإعادته سالماً إلى المدينة. وأخيراً قرّر الوليد بن عبد الملك تصفية الإمام (ع) فأوعز إلى أخيه سليمان فدسّ السم له...
وقد استشهد الإمام(ع) في الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام عام أربعة وتسعين للهجرة في المدينة المنورة، وتولَّى الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) تجهيز جثمان أبيه (عليه السلام)، وبعد تشييع حافل لم تشهد المدينة نظيراً له، جيء بجثمانه الطاهر إلى مقبرة البقيع في المدينة المنوّرة، فدفن بجوار قبر عمِّه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام).
قال جابر الجعفي: لمّا جرّد مولاي محمّد الباقر، مولاي علي بن الحسين ثيابه ووضعه على المغتسل، وكان قد ضرب دونه حجاباً سمعته ينشج ويبكي حتّى أطال ذلك، فأمهلته عن السؤال حتّى إذا فرغ من غسله ودفنه، فأتيت إليه وسلّمت عليه وقلت له: جعلت فداك مم كان بكاؤك وأنت تغسل أباك ذلك حزناً عليه؟
قال: (لا يا جابر لكن لمّا جرّدت أبي ثيابه ووضعته على المغتسل رأيت آثار الجامعة في عنقه، وآثار جرح القيد في ساقيه وفخذيه فأخذتني الرقّة لذلك وبكيت
مِنْ مَزَايَا وأَفْعَال الإمام السَّجَاد(ع)
عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر (ع)يقول : كانت لعلي بن الحسين ناقة قد حج عليها اثنين وعشرين حجة ، ما قرعها بمقرعة قط ، قال : فجاءت بعد موته ، فما شعرت بها حتى جاءني بعض الموالي فقال : إن الناقة قد خرجت فأتت قبر علي بن الحسين فبركت عليه ودلكت بجرانها وترغو فقلت : أدركوها فجاؤوني بها قبل أن يعلموا بها أو يروها فقال أبو جعفر (ع): وما كانت رأت القبر قط.
2- عن أبي عبد الله قال : لما كان الليلة التي وعدها علي بن الحسين قال لمحمد : يا بني أبغني وضوءا قال : فقمت فجئت بوضوء فقال : لا ينبغي هذا فان فيه شيئا ميتا قال : فجئت بالمصباح فإذا فيه فارة ميتة ، فجئته بوضوء غيره ، قال : فقال : يا بني هذه الليلة التي وعدتها ، فأوصى بناقته أن يحضر لها عصام ، ويقام لها علف فجعلت فيه ، فلم تلبث أن خرجت حتى أتت القبر فضربت بجرانها ورغت وهملت عيناها.
3- عن علي بن زيد قال : قلت لسعيد بن المسيب إنك أخبرتني أن علي بن الحسين النفس الزكية وأنك لا تعرف له نظيرا قال : كذلك ، وما هو مجهول ما أقول فيه ، والله ما رؤي مثله قال علي بن زيد : فقلت : والله إن هذه الحجة الوكيدة عليك يا سعيد فلم لم تصل على جنازته ؟ فقال : إن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين (ع)فخرج وخرجنا معه ألف راكب ، فلما صرنا بالسقيا نزل فصلى وسجد سجدة الشكر ، وفي رواية الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال : كان القوم لا يخرجون من مكة حتى يخرج علي بن الحسين سيد العابدين ، فخرج (ع)فخرجت معه فنزل في بعض المنازل فصلى ركعتين فسبح في سجوده ، فلم يبق شجر ولا مدر إلا سبحوا معه ففزعنا فرفع رأسه وقال : يا سعيد أفزعت ؟ فقلت : نعم يا ابن رسول الله فقال : هذا التسبيح الأعظم حدثني أبي عن جدي عن رسول الله (ص)أنه قال : لا تبقى الذنوب مع هذا التسبيح فقلت : علمنا - . وفي رواية علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب أنه سبح في سجوده فلم يبق حوله شجرة ولا مدرة إلا سبحت بتسبيحه ، ففزعت من ذلك وأصحابي ، ثم قال : يا سعيد إن الله جل جلاله لما خلق جبرئيل ألهمه هذا التسبيح فسبحت السماوات ومن فيهن لتسبيحه الأعظم وهو اسم الله جل وعز الأكبر ، يا سعيد أخبرني أبي الحسين ، عن أبيه ، عن رسول الله (ص)عن جبرئيل ، عن الله جل جلاله أنه قال : ما من عبد من عبادي آمن بي وصدق بك وصلى في مسجدك ركعتين على خلاء من الناس إلا غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلم أر شاهدا أفضل من علي بن الحسين (ع)حيث حدثني بهذا الحديث ، فلما أن مات شهد جنازته البر والفاجر وأثنى عليه الصالح والطالح ، وانهال يتبعونه حتى وضعت الجنازة فقلت : إن أدركت الركعتين يوما من الدهر فاليوم هو ، ولم يبق إلا رجل وامرأة ، ثم خرجا إلى الجنازة وثبت لأصلي فجاء تكبير من السماء فأجابه تكبير من الأرض ، وأجابه تكبير من السماء فأجابه تكبير من الأرض ، ففزعت وسقطت على وجهي فكبر من في السماء سبعا ومن في الأرض سبعا وصلى على علي بن الحسين (ع)ودخل الناس المسجد فلم أدرك الركعتين ولا الصلاة على علي بن الحسين (ع)، فقلت : يا سعيد لو كنت أنا لم أختر إلا الصلاة على علي بن الحسين ، إن هذا لهو الخسران المبين .
فبكى سعيد ، ثم قال : ما أردت إلا الخير ليتني كنت صليت عليه ، فإنه ما رؤي مثله .
عن أبي الحسن (ع) قال : سمعته يقول . إن علي بن الحسين (ع)لما حضرته الوفاة أغمي عليه ثم فتح عينيه وقرأ إذا وقعت الواقعة وإنا فتحنا لك وقال : الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ، ثم قبض من ساعته ولم يقل شيئا .
عن الثمالي ، عن أبي جعفر (ع) قال : لما حضر علي بن الحسين (ع)الوفاة ضمني إلى صدره وقال : يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة ، ومما ذكر أن أباه أوصاه به قال : يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله.