• القسم : سيرة النبي والأئمة (ع) .
        • الموضوع : سِيْرَةُ الإِمَامِ مُوْسَى الكَاظِم (عليه السلام) .

سِيْرَةُ الإِمَامِ مُوْسَى الكَاظِم (عليه السلام)

الوِلادَةُ المَيْمُوْنَةُ

وُلد الإمام الكاظم(ع) في الأبواء بين مكة والمدينة في السابع من شهر صفر عام مئة وثمان وعشرين للهجرة.

وعن أبي بصير قال : كنت مع أبي عبد الله (ع)في السنة التي ولد فيها ابنه موسى (ع)فلما نزلنا الأبواء وضع لنا أبو عبد الله الغداء ولأصحابه وأكثره وأطابه ، فبينا نحن نتغدى إذ أتاه رسول حميدة أن الطلق قد ضربني ، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا . فقام أبو عبد الله فرحا مسرورا ، فلم يلبث أن عاد إلينا ، حاسرا عن ذراعيه ضاحكا سنه فقلنا : أضحك الله سنك ، وأقر عينك ، ما صنعت حميدة ؟ فقال : وهب الله لي غلاما ، وهو خير من برأ الله ، ولقد خبرتني عنه بأمر كنت أعلم به منها قلت : جعلت فداك وما خبرتك عنه حميدة ؟ قال : ذكرت أنه لما وقع من بطنها وقع واضعا يديه على الأرض رافعا رأسه إلى السماء ، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول الله (ص)وأمارة الامام من بعده .

أَلْقَابُهُ(ع) وكُنْيَتُه

جاء في مناقب ابن شهرآشوب : كنيته (ع)أبو الحسن الأول ، وأبو الحسن الماضي ، وأبو إبراهيم وأبو علي ، ويعرف بالعبد الصالح ، والنفس الزكية ، وزين المجتهدين ، والوفي والصابر ، والأمين ، والزاهر ، وسمي بذلك لأنه زهر بأخلاقه الشريفة وكرمه المضيئ التام ، وسمي الكاظم لما كظمه من الغيظ ، وغض بصره عما فعله الظالمون به حتى مضى قتيلا في حبسهم والكاظم الممتلي خوفا وحزنا ، ومنه كظم قربته إذا شد رأسها ، والكاظمة البئر الضيقة ، والسقاية المملوءة ، وكان (ع)أزهر إلا في القيظ لحرارة مزاجه ، ربع تمام خضر ، حالك ، كث اللحية .

النَّصُّ عَلَيْهِ بِالخِلافَة

عن يزيد بن سليط الزيدي قال : لقينا أبا عبد الله (ع)في طريق مكة ونحن جماعة فقلت له : بأبي أنت وأمي أنتم الأئمة المطهرون ، والموت لا يعرى منه أحد ، فأحدث إلي شيئا ألقيه إلى من يخلفني .

فقال لي : نعم هؤلاء ولدي وهذا سيدهم ، وأشار إلى ابنه موسى (ع)، وفيه علم الحكم ، والفهم ، والسخاء ، والمعرفة بما يحتاج الناس إليه ، فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم ، وفيه حسن الخلق ، وحسن الجوار ، وهو باب من أبواب الله عز وجل وفيه أخرى هي خير من هذا كله فقال له أبي : وما هي بأبي أنت وأمي ؟ قال : يخرج الله تعالى منه غوث هذه الأمة ، وغياثها ، وعلمها ، ونورها وفهمها ، وحكمها خير مولود وخير ناشئ ، يحقن الله به الدماء ، ويصلح به ذات البين ، ويلم به الشعث ، ويشعب به الصدع ، ويكسو به العاري ، ويشبع به الجائع ويؤمن به الخائف ، وينزل به القطر ، ويأتمر له العباد ، خير كهل ، وخيرنا شئ يبشر به عشيرته قبل أوان حلمه ، قوله حكم ، وصمته علم ، يبين للناس ما يختلفون فيه قال : فقال أبي : بأبي أنت وأمي فيكون له ولد بعده ؟ قال : نعم ، ثم قطع الكلام .

قال يزيد : ثم لقيت أبا الحسن يعني موسى بن جعفر (ع)بعد فقلت له : بأبي أنت وأمي إني أريد أن تخبرني بمثل ما أخبر به أبوك قال : فقال : كان أبي (ع)في زمن ليس هذا مثله قال يزيد : فقلت : من يرضى منك بهذا فعليه لعنة الله قال : فضحك ثم قال : أخبرك يا أبا عمارة إني خرجت من منزلي فأوصيت في الظاهر إلى بني وأشركتهم مع علي ابني ، وأفردته بوصيتي في الباطن .

هَكَذَا كَانَ الإمَامُ الكَاظِمُ(ع)

إن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى (ع)ويسبه إذا رآه ، ويشتم عليا فقال له بعض حاشيته يوما : دعنا نقتل هذا الفاجر ، فنهاهم عن ذلك أشد النهي ، وزجرهم ، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة ، فركب إليه ، فوجده في مزرعة له ، فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري : لا توطئ زرعنا ، فتوطأه (ع)بالحمار ، حتى وصل إليه ، ونزل وجلس عنده ، وباسطه وضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟ قال : مائة دينار ، قال : فكم ترجو أن تصيب ؟ قال : لست أعلم الغيب قال له : إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه ؟ قال : أرجو أن يجئ مائتا دينار .

قال : فأخرج له أبو الحسن (ع)صرة فيها ثلاثمائة دينار ، وقال هذا زرعك على حاله ، والله يرزقك فيه ما ترجو قال : فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف ، قال : وراح إلى المسجد فوجد العمري جالسا فلما نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالاته قال : فوثب أصحابه إليه فقالوا له : ما قضيتك ؟ قد كنت تقول غير هذا قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو لأبي الحسن عليه السلام فخاصموه وخاصمهم ، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري : أيما كان خيرا ما أردتم ؟ أم ما أردت ؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم ، وكفيت به شره ، و ذكر جماعة من أهل العلم أن أبا الحسن (ع)كان يصل بالمأتي دينار إلى الثلاثمائة وكان صرار موسى مثلا .

وذكر ابن عمارة وغيره من الرواة أنه لما خرج الرشيد إلى الحج وقرب من المدينة استقبله الوجوه من أهلها يقدمهم موسى بن جعفر (ع)على بغلة ، فقال له الربيع : ما هذه الدابة التي تلقيت عليها أمير المؤمنين ؟ وأنت إن تطلب عليها لم تلحق وإن طلبت عليها لم تفت فقال : إنها تطأطأت عن خيلاء الخيل ، وارتفعت عن ذلة العير ، وخير الأمور أوساطها .

قالوا : ولما دخل هارون الرشيد المدينة توجه لزيارة النبي (ص)ومعه الناس فتقدم الرشيد إلى قبر رسول الله (ص)وقال : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا ابن عم ، مفتخرا بذلك على غيره فتقدم أبو الحسن (ع)فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبتاه ، فتغير وجه الرشيد ، وتبين الغيظ فيه .

دخل موسى بن جعفر عليه السلام بعض قرى الشام متنكرا هاربا فوقع في غار وفيه راهب يعظ في كل سنة يوما فلما رآه الراهب دخله منه هيبة فقال : يا هذا أنت غريب ؟ قال : نعم قال : منا ؟ أو علينا ؟ قال : لست منكم قال : أنت من الأمة المرحومة ؟ قال : نعم قال : أفمن علمائهم أنت أم من جهالهم ؟ قال : لست من جهالهم فقال : كيف طوبى أصلها في دار عيسى وعندكم في دار محمد وأغصانها في كل دار ؟ .

فقال (ع): الشمس قد وصل ضوؤها إلى كل مكان وكل موضع ، وهي في السماء قال : وفي الجنة لا ينفد طعامها وإن أكلوا منه ولا ينقص منه شئ ؟ قال : السراج في الدنيا يقتبس منه ولا ينقص منه شئ ، قال : وفي الجنة ظل ممدود ؟ فقال : الوقت الذي قبل طلوع الشمس كلها ظل ممدود قوله " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل " قال : ما يؤكل ويشرب في الجنة لا يكون بولا ولا غائطا ؟ قال : الجنين في بطن أمه قال : أهل الجنة لهم خدم يأتونهم بما أرادوا بلا أمر ؟ فقال : إذا احتاج الانسان إلى شئ عرفت أعضاؤه ذلك ، ويفعلون بمراده من غير أمر قال : مفاتيح الجنة من ذهب ؟ أو فضة ؟ قال : مفتاح الجنة لسان العبد لا إله إلا الله قال : صدقت ، وأسلم والجماعة معه .

قال أبو حنيفة : رأيت موسى بن جعفر وهو صغير السن في دهليز أبيه فقلت : أين يحدث الغريب منكم إذا أراد ذلك ؟ فنظر إلي ثم قال : يتوارى خلف الجدار ويتوقى أعين الجار ، ويتجنب شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، وأفنية الدور ، و الطرق النافذة ، والمساجد ، ولا يستقبل القبلة ، ولا يستدبرها ، ويرفع ويضع بعد ذلك حيث شاء .

قال : فلما سمعت هذا القول منه ، نبل في عيني ، وعظم في قلبي ، فقلت له : جعلت فداك ممن المعصية ؟ فنظر إلي ثم قال : اجلس حتى أخبرك فجلست فقال : إن المعصية لا بد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما جميعا ، فان كانت من الله تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله ، وإن كانت منهما فهو شريكه ، والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الامر ، وإليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ووجبت الجنة والنار فقلت : " ذرية بعضها من بعض " .

مِنْ كَرَامَات الكاظم(ع)

روى عبد الله بن إدريس ، عن ابن سنان قال : حمل الرشيد في بعض الأيام إلى علي بن يقطين ثيابا أكرمه بها وكان في جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك ، مثقلة بالذهب ، فأنفذ علي بن يقطين جل تلك الثياب إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (ع)وأنفذ في جملتها تلك الدراعة ، وأضاف إليها مالا كان أعده له على رسم له فيما يحمله إليه من خمس ماله ، فلما وصل ذلك إلى أبي الحسن قبل المال والثياب ، ورد الدراعة على يد الرسول إلى علي بن يقطين وكتب إليه أن احتفظ بها ، ولا تخرجها عن يدك ، فسيكون لك بها شأن ، تحتاج إليها معه ، فارتاب علي بن يقطين بردها عليه ، ولم يدر ما سبب ذلك ، فاحتفظ بالدراعة .

فلما كان بعد أيام تغير علي بن يقطين على غلام كان يختص به فصرفه عن خدمته ، وكان الغلام يعرف ميل علي بن يقطين إلى أبي الحسن عليه السلام ويقف على ما يحمله إليه في كل وقت من مال وثياب وألطاف وغير ذلك ، فسعى به إلى الرشيد فقال : إنه يقول بامامة موسى بن جعفر ، ويحمل إليه خمس ماله في كل سنة وقد حمل إليه الدراعة التي أكرمه بها أمير المؤمنين في وقت كذا وكذا .

فاستشاط الرشيد لذلك ، وغضب غضبا ، وقال لأكشفن عن هذه الحال فإن كان الامر كما يقول أزهقت نفسه ، وأنفذ في الوقت باحضار علي بن يقطين فلما مثل بين يديه ، قال له : ما فعلت بالدراعة التي كسوتك بها ؟ قال : هي يا أمير المؤمنين عندي في سفط مختوم ، فيه طيب ، وقد احتفظت بها ، وقلما أصبحت إلا وفتحت السفط ، فنظرت إليها تبركا بها ، وقبلتها ، ورددتها إلى موضعها ، و كلما أمسيت صنعت مثل ذلك . فقال : أحضرها الساعة ! قال : نعم يا أمير المؤمنين ، واستدعى بعض خدمه وقال له : امض إلى البيت الفلاني من الدار ، فخذ مفتاحه من خازنتي ، فافتحه وافتح الصندوق الفلاني ، وجئني بالسفط الذي فيه بختمه ، فلم يلبث الغلام أن جاءه بالسفط مختوما فوضع بين يدي الرشيد ، فأمر بكسر ختمه وفتحه .

فلما فتح نظر إلى الدراعة فيه بحالها ، مطوية مدفونة في الطيب ، فسكن الرشيد من غضبه ثم قال لعلي بن يقطين : ارددها إلى مكانها ، وانصرف راشدا فلن أصدق عليك بعدها ساعيا ، وأمر أن يتبع بجائزة سنية ، وتقدم بضرب الساعي ألف سوط ، فضرب نحوا من خمسمائة سوط فمات في ذلك .

قِصَّةُ الرَّشيْد مَع الأعرابي

حج هارون الرشيد وابتدأ بالطواف ، ومنعت العامة من ذلك ، لينفرد وحده ، فبينما هو في ذلك إذ ابتدر أعرابي البيت ، وجعل يطوف معه .

فقال الحاجب : تنح يا هذا عن وجه الخليفة ، فانتهرهم الأعرابي وقال : إن الله ساوى بين الناس في هذا الموضع فقال " سواءا العاكف فيه والباد " فأمر الحاجب بالكف عنه ، فكلما طاف الرشيد طاف الأعرابي أمامه ، فنهض إلى الحجر الأسود ليقبله فسبقه الأعرابي إليه والتثمه ، ثم صار الرشيد إلى المقام ليصلي فيه فصلى الأعرابي أمامه .

فلما فرغ هارون من صلاته ، استدعى الأعرابي فقال الحجاب : أجب أمير المؤمنين فقال : مالي إليه حاجة فأقوم إليه بل إن كانت الحاجة له فهو بالقيام إلي أولى قال : صدق فمشى إليه وسلم عليه فرد (ع)فقال هارون : أجلس يا أعرابي ؟ فقال : ما الموضع لي فتستأذنني فيه بالجلوس ، إنما هو بيت الله نصبه لعباده ، فان أحببت أن تجلس فاجلس ، وإن أحببت أن تنصرف فانصرف . فجلس هارون وقال : ويحك يا أعرابي مثلك من يزاحم الملوك ؟ قال : نعم وفي مستمع قال : فاني سائلك فان عجزت آذيتك قال : سؤالك هذا سؤال متعلم أو سؤال متعنت ؟ قال : بل سؤال متعلم قال : اجلس مكان السائل من المسؤول وسل وأنت مسؤول .

فقال هارون : أخبرني ما فرضك ؟ قال : إن الفرض رحمك الله واحد وخمسة وسبعة عشر ، وأربع وثلاثون ، وأربع وتسعون ، ومائة وثلاثة وخمسون ، على سبعة عشر ، ومن اثني عشر واحد ، ومن أربعين واحد ، ومن مأتين خمس ، ومن الدهر كله واحد ، وواحد بواحد .

قال : فضحك الرشيد وقال : ويحك أسألك عن فرضك ، وأنت تعد علي الحساب ! ؟ قال : أما علمت أن الدين كله حساب ، ولو لم يكن الدين حسابا لما اتخذ الله للخلائق حسابا ، ثم قرأ " وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين " قال : فبين لي ما قلت ؟ وإلا أمرت بقتلك بين الصفا والمروة .

فقال الحاجب : تهبه لله ولهذا المقام قال : فضحك الأعرابي من قوله ، فقال الرشيد : مما ضحكت يا أعرابي ؟ قال : تعجبا منكما ، إذ لا أدري من الأجهل منكما ، الذي يستوهب أجلا قد حضر ، أو الذي استعجل أجلا لم يحضر .

فقال الرشيد : فسر ما قلت ؟ قال : أما قولي الفرض واحد : فدين الاسلام كله واحد ، وعليه خمس صلوات ، وهي سبع عشر ركعة وأربع وثلاثون سجدة وأربع وتسعون تكبيرة ، ومائة وثلاث وخمسون تسبيحة ، وأما قولي من اثني عشر واحد : فصيام شهر رمضان من اثني عشر شهرا ، وأما قولي : من الأربعين واحد فمن ملك أربعين دينار أوجب الله عليه دينارا ، وأما قولي : من مائتين خمسة فمن ملك مائتي درهم أوجب الله عليه خمسة دراهم . وأما قولي فمن الدهر كله واحد فحجة الاسلام ، وأما قولي واحد من واحد فمن أهرق دما من غير حق وجب إهراق دمه قال الله تعالى : " النفس بالنفس " فقال الرشيد : لله درك ، وأعطاه بدرة فقال : فبم استوجبت منك هذه البدرة يا هارون بالكلام ؟ أو بالمسألة ؟ قال : بالكلام قال : فإني سائلك عن مسألة فان أتيت بها كانت البدرة لك تصدق بها في هذا الموضع الشريف ، وإن لم تجبني عنها أضفت إلى البدرة بدرة أخرى لأتصدق بها على فقراء الحي من قومي ، فأمر بإيراد أخرى وقال : سل عما بدا لك . فقال : أخبرني عن الخنفساء تزق ؟ أم ترضع ولدها ؟ فحرد هارون و قال : ويحك يا أعرابي مثلي من يسأل عن هذه المسألة ؟ ! فقال : سمعت ممن سمع من رسول الله (ص)يقول : من ولي أقواما وهب له من العقل كعقولهم ، وأنت إمام هذه الأمة يجب أن لا تسأل عن شئ من أمر دينك ، ومن الفرايض ، إلا أجبت عنها ، فهل عندك له الجواب ؟ .

قال هارون : رحمك الله لا فبين لي ما قلته ، وخذ البدرتين فقال : إن الله تعالى لما خلق الأرض خلق دبابات الأرض الذي من غير فرث ، ولا دم ، خلقها من التراب ، وجعل رزقها وعيشها منه ، فإذا فارق الجنين أمه لم تزقه ولم ترضعه وكان عيشها من التراب .

فقال هارون : والله ما ابتلى أحد بمثل هذه المسألة ، وأخذ الأعرابي البدرتين وخرج ، فتبعه بعض الناس ، وسأله عن اسمه فإذا هو موسى بن جعفر بن محمد (ع)فأخبر هارون بذلك فقال : والله لقد كان ينبغي أن تكون هذه الورقة من تلك الشجرة .

إِحْتِجَاجٌ مع المتكلمين بِحضرة الرشيد

عن يونس بن عبد الرحمان قال : كان يحيى بن خالد البرمكي قد وجد على هشام بن الحكم شيئا من طعنه على الفلاسفة ، وأحب أن يغري به هارون ونصرته على القتل ، قال : وكان هارون لما بلغه عن هشام مال إليه .

وذلك أن هشاما تكلم يوما بكلام عند يحيى بن خالد في إرث النبي (ص)فنقل إلى هارون فأعجبه وقد كان قبل ذلك يحيى يسترق أمره عند هارون ، ويرده عن أشياء كان يعزم عليها من أذاه فكان ميل هارون إلى هشام أحد ما غير قلب يحيى على هشام فشيعه عنده وقال له : يا أمير المؤمنين إني قد استبطنت أمر هشام فإذا هو يزعم أن لله في أرضه إماما غيرك مفروض الطاعة قال : سبحان الله ! ! قال : نعم ، ويزعم أنه لو أمره بالخروج لخرج ، وإنما كنا نرى أنه ممن يرى الالباد بالأرض .

فقال هارون ليحيى : فاجمع عندك المتكلمين ، وأكون أنا من وراء الستر بيني وبينهم ، لئلا يفطنوا بي ، ولا يمتنع كل واحد منهم أن يأتي بأصله لهيبتي قال : فوجه يحيى فأشحن المجلس من المتكلمين ، وكان فيهم ضرار بن عمرو وسليمان بن جرير وعبد الله بن يزيد الأباضي ومؤبد بن مؤبد ورأس الجالوت قال : فتساءلوا فتكافؤوا ، وتناظروا ، وتقاطعوا ، وتناهوا إلى شاذ من مشاذ الكلام كل يقول لصاحبه : لم تجب ، ويقول : قد أجبت ، وكان ذلك عن يحيى حيلة على هشام ، إذ لم يعلم بذلك المجلس ، واغتنم ذلك لعلة كان أصابها هشام بن الحكم .

فلما تناهوا إلى هذا الموضع قال لهم يحيى بن خالد : أترضون فيما بينكم هشاما حكما ؟ قالوا : قد رضينا أيها الوزير ، فأنى لنا به وهو عليل ، فقال يحيى فأنا أوجه إليه ، فأرسله أن يتجشم المشي فوجه إليه فأخبره بحضورهم وأنه إنما منعه أن يحضروه أول المجلس إبقاءا عليه من العلة وإن القوم قد اختلفوا في المسائل والأجوبة ، وتراضوا بك حكما بينهم فان رأيت أن تتفضل ، وتحمل على نفسك فافعل .

فلما صار الرسول إلى هشام قال لي : يا يونس قلبي ينكر هذا القول ولست آمن أن يكون ههنا أمرا لا أقف عليه ، لان هذا الملعون يحيى بن خالد قد تغير علي لأمور شتى ، وقد كنت عزمت إن من الله علي بالخروج من هذه العلة أن أشخص إلى الكوفة ، وأحرم الكلام بتة ، وألزم المسجد ليقطع عني مشاهدة هذا الملعون - يعني يحيى بن خالد - قال : قلت : جعلت فداك لا يكون إلا خيرا ، فتحرز ما أمكنك فقال لي : يا يونس أترى التحرز عن أمر يريد الله إظهاره على لساني ، أنى يكون ذلك ، ولكن قم بنا على حول الله وقوته .

فركب هشام بغلا كان مع رسوله ، وركبت أنا حمارا كان لهشام قال : فدخلنا المجلس فإذا هو مشحون بالمتكلمين قال : فمضى هشام نحو يحيى فسلم عليه وسلم على القوم ، وجلس قريبا منه ، وجلست أنا حيث انتهى بي المجلس .

قال : فأقبل يحيى على هشام بعد ساعة فقال : إن القوم حضروا وكنا مع حضورهم نحب أن تحضر ، لا لان تناظر بل لان نأنس بحضورك ، إن كانت العلة تقطعك عن المناظرة ، وأنت بحمد الله صالح ، وليست علتك بقاطعة من المناظرة ، و هؤلاء القوم قد تراضوا بك حكما بينهم .

قال : فقال هشام : ما الموضع الذي تناهت به المناظرة ؟ فأخبره كل فريق منهم بموضع مقطعه ، فكان من ذلك أن حكم لبعض على بعض ، فكان من المحكومين عليه سليمان بن جرير ، فحقدها على هشام .

قال : ثم إن يحيى بن خالد قال لهشام : إنا قد أعرضنا عن المناظرة والمجادلة منذ اليوم ولكن إن رأيت أن تبين عن فساد اختيار الناس الامام وأن الإمامة في آل بيت الرسول دون غيرهم ؟ قال هشام : أيها الوزير العلة تقطعني عن ذلك ، ولعل معترضا يعترض ، فيكتسب المناظرة والخصومة قال : إن اعترض معترض قبل أن تبلغ مرادك وغرضك ، فليس ذلك له بل عليه أن يحفظ المواضع التي له فيها مطعن فيقفها إلى فراغك ولا يقطع عليك كلامك .

فبدأ هشام وساق الذكر لذلك وأطال ، واختصرنا منه موضع الحاجة ، فلما فرغ مما قد ابتدأ فيه من الكلام في فساد اختيار الناس الامام ، قال يحيى لسليمان ابن جرير : سل أبا محمد عن شئ من هذا الباب ؟ قال سليمان لهشام : أخبرني عن علي بن أبي طالب (ع)مفروض الطاعة ؟ فقال هشام : نعم .

قال : فان أمرك الذي بعده بالخروج بالسيف معه تفعل وتطيعه ؟ فقال هشام : لا يأمرني قال : ولم إذا كانت طاعته مفروضة عليك ، وعليك أن تطيعه ؟ فقال هشام : عد عن هذا ، فقد تبين فيه الجواب ، قال سليمان : فلم يأمرك في حال تطيعه وفي حال لا تطيعه ؟ فقال هشام : ويحك لم أقل لك إني لا أطيعه فتقول : إن طاعته مفروضة إنما قلت لك : لا يأمرني .

قال سليمان : ليس أسألك إلا على سبيل سلطان الجدل ، ليس على الواجب انه لا يأمرك فقال هشام : كم تحول حول الحمى ، هل هو إلا أن أقول لك إن أمرني فعلت ، فتنقطع أقبح الانقطاع ، ولا يكون عندك زيادة ، وأنا أعلم بما يجب قولي ، وما إليه يؤل جوابي .

قال : فتغير وجه هارون ، وقال هارون : قد أفصح ، وقام الناس واغتنمها هشام ، فخرج على وجهه إلى المدائن . قال : فبلغنا أن هارون قال ليحيى : شد يدك بهذا وأصحابه ، وبعث إلى أبي الحسن موسى (ع)فحبسه فكان هذا سبب حبسه مع غيره من الأسباب وإنما أراد يحيى أن يهرب هشام فيموت مخفيا ما دام لهارون سلطان قال : ثم صار هشام إلى الكوفة وهو يعقب عليه ، ومات في دار ابن شرف بالكوفة رحمه الله .

قال : فبلغ هذا المجلس محمد بن سليمان النوفلي وابن ميثم وهما في حبس هارون فقال النوفلي : أرى هشاما ما استطاع أن يعتل فقال ابن ميثم : بأي شئ يستطيع أن يعتل ؟ وقد أوجب أن طاعته مفروضة من الله قال : يعتل بأن يقول : الشرط علي في إمامته أن لا يدعوا أحدا إلى الخروج ، حتى ينادي مناد من السماء فمن دعاني ممن يدعي الإمامة قبل ذلك الوقت علمت أنه ليس بامام ، وطلبت من أهل هذا البيت من لا يقول إنه يخرج ولا يأمر بذلك حتى ينادي مناد من السماء فأعلم أنه صادق .

فقال ابن ميثم : هذا من أخبث الخرافة ، ومتى كان هذا في عقد الإمامة إنما يروى هذا في صفة القائم (ع)وهشام أجدل من أن يحتج بهذا ، على أنه لم يفصح بهذا الافصاح الذي قد شرطته أنت ، إنما قال : إن أمرني المفروض الطاعة بعد علي (ع)فعلت ، ولم يسم فلان دون فلان كما تقول : إن قال لي طلبت غيره ، فلو قال هارون له : - وكان المناظر له - من المفروض الطاعة ؟ فقال له : أنت .

لم يكن أن يقول له فان أمرتك بالخروج بالسيف تقاتل أعدائي تطلب غيري ، وتنتظر المنادي من السماء ، هذا لا يتكلم به مثل هذا ، لعلك لو كنت أنت تكلمت به .

قال : ثم قال علي بن إسماعيل الميثمي : إنا لله وإنا إليه راجعون ، على ما يمضي من العلم إن قتل ، ولقد كان عضدنا وشيخنا ، والمنظور إليه فينا .

الإمام(ع) والسلطة العباسية

كان الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) في الرابعة من عمره عندما تهاوت أركان السلطة الأمويّة المتعسفة الظالمة.

ان السياسة العنصريّة التي كان يتبعها الأمويون قد أثارت الناس فاخذوا يطالبون بإيجاد الحكومة الإسلامية العادلة التيّ تتمثّل بخلافة أمير المؤمنين (ع)، فثار الناس ضد الأمويين، واستغل بعض السياسيين هذه العواطف الجماهيريّة وحبّ الناس لآل عليّ فاسقطوا الحكم الأموي بمساعدة أبي مسلم الخراساني بهدف ايصال الحقّ الى صاحبه، ولكنهم بدل ان يسندوا الخلافة الى الإمام السادس جعفر بن محمّد الصادق (ع) أعطوها لابي العباس السفّاح العباسيّ، وهم في الواقع قد أجلسوه على عرش السلطنة والملكيّة

وبهذه الصورة بدأت سلسلة من الملكيّة الجديدة ولكن في لباس الخلافة للنبي (ص)، وذلك عام «132» هـ.. ولم ينقصها شيء من الظلم والنفاق التي كان يتميّز بها الأمويون، بل ان الخلفاء الجدد قد تقدّموا في بعض الجهات على أسلافهم الأمويّين.

والفرق الوحيد بينهما ان الأمويين لم يستمروا طويلاً بينما العباسيون تسلطوا على الناس وحكموهم بنفس طريقة اسلافهم فترة امتدت «524» عاماً، فلم يسقط حكمهم الاّ عام «656» هـ.

اجل ان الإمام السابع عاصر خلال عمره الشريف خلافة كلّ من أبي العباس السفاح والمنصور الدوانيقي والهادي والمهدي وهارون الرشيد، وتحمّل خلالها الوان الظلم والضغط والإرهاب.

وغبار الانفس الشيطانيّة لهؤلاء الطغاة كان كافياً لا لحاق الكدر والحزن بمرآة روح الإمام، فكيف إذا عرفنا ان هؤلاء ـ من المنصور والى هارون ـ قد صبّوا أنواع الظلم على جسمه الطاهر وروحه الكبير، وكلّ ما لم يفعلوه فقد كانوا عاجزين عنه لا أنّهم لم يريدوه.

ومات أبو العباس السفاح في عام « 136 » فجلس مكانه أخوه المنصور الدوانيقي، وبنى مدينة بغداد وقتل ابا مسلم الخراساني، ولما استحكمت خلافته لم يتورع عن قتل وسجن وتعذيب أبناء علي ومصادرة اموالهم، ولم يتوقف عن ذلك لحظة واحدة، وعلى يد هذا الظالم تمت تصفية كبار رجال هذا البيت الكريم، وعلى رأسهم الإمام الصادق (ع)...

ان رجلاً سفّاكاً للدماء وغدّاراً وحسوداً وبخيلاً مثل المنصور يعتبر مضرباً للمثل في التاريخ.

وعندما استشهد والد الإمام الكاظم كان الإمام الكاظم في العشرين من عمره، واستمر الإمام الى سن الثلاثين يعاني الإرهاب والرعب والخوف الذي تصبّه حكومة المنصور وكان يقاومها بصلابة ويدير شؤون شيعته ويواصلهم بخفاء.

ثمّ هلك المنصور عام « 158 » فانتهت السلطة الى ولده المهدي، فاتخذ المهدي العباسيّ سياسة الخداع للناس واطلق سراح السجناء السياسين، وكان أكثرهم من شيعة الإمام الكاظم، اِلا قليلاً منهم، واعاد الى المطلق سراحهم ما صودر منهم من أموال. لكنه بقي يراقب سلوكهم ويحمل لهم اشدّ العداء في قلبه.

وكان يجزل العطاء للشعراء الذي ينالون آل علي بالهجاء، ومن جملتهم «بشار بن برد» حيث اعطاه في احدى المرات سبعين ألف درهم، و«مروان بن أبي حفص»، حيث وصله مرة بمائة ألف درهم .

ومما يجدر ذكره في هذا المضمار ان يده كانت مبسوطة جداً في الانفاق من بيت مال المسلمين على مجالس اللهو والطرب وشرب الخمور والزنا. ويذكر انه انفق «50» مليوناً من الدراهم على زواج ابنه هارون

وخلال خلافة المهدي طار صيت الإمام (ع) ولمع نجمه في سماء الفضيلة والتقوى والعلم والقيادة، فأخذ الناس يتجهون اليه بصورة خفيّة

وبدأ جواسيس المهدي ينشطون فكتبوا اليه تقريرين عن هذه النشاطات السريّة، فخاف على سلطته وأمر بنقل الإمام من المدينة الى بغداد والقائه في السجن.

روي عن أبي خالد الزبالي انه قال:

«قدم ابو الحسن موسى (ع) زبالةَ ومعه جماعة من أصحاب المهدي بعثهم في اشخاصه اليه، قال: وامرني بشراء حوائج ونظر الي وانا مغموم، فقال: يا ابا خالد: مالي أراك مغموماً؟ قلت: هو ذا تصير الى هذا الطاغية ولا آمنك منه قال: ليس عليّ منه بأس اذا كان يوم كذا فانتظرني في أول الميل. قال: فما كانت لي همّة اِلاّ إحصاء الأيام حتّى إذا كان ذلك اليوم وافيت أول الميل فلم ار أحداً حتى كادت الشمس تجب (أي تغيب) فشككت، ونظرت بعد الى شخص قد أقبل فانتظرته فاذا هو أبو الحسن موسى (ع) على بغلة قد تقدّم فنظر اليّ فقال: لا تشكّن، فقلت: قد كان ذلك، ثمّ قال: انّ لي عودة ولا أتخلّص منهم، فكان كما قال»[1][1](3[1]).

اجل وفي هذه السفرة عندما جاء المهدي بالإمام الى بغداد وأودعه السجن، فقد رأى في المنام الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) وهو يخاطبه بهذه الآية الكريمة:

«فهل عسيتم ان توليّتم ان تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم »

يقول الربيع:

أرسل المهدي خلفي في منتصف الليل وأحضرني، فأسرعت إليه مستولياً عليّ الخوف فوجدته يردد هذه الاية: «فهل عسيتم...».

ثمّ قال لي: جئني بموسى بن جعفر من السجن. فذهبت وجئت به، فنهض المهدي من مكانه وقبله واجلسه الى جانبه وحكى له منامه.

وبعد ذلك اصدر امره باعادة الإمام الى المدينة. يقول الربيع: كنت أخشى ان تحدث بعض الموانع فأسرعت في نفس تلك الليلة لتوفير مستلزمات سفر الإمام، فلم يصبح الصباح حتّى كان الإمام في طريقه الى المدينة...»

وواصل الإمام في المدينة نشاطه في ارشاد الناس وتعليمهم وتهيئة الشيعة على الرغم من وجود الضغوط الشديدة من البلاط العباسيّ، واستمر هذا الوضع حتى هلك المهدي عام «169»، فأُجلس مكانه ابنه الهادي على عرش الملك والسلطنة.

وقد سار الهادي فشدّد الامر على ابناء علي بصورة علنيّة، وحتّى انه قطع تلك الصلات التي عيّنها لهم ابوه.

مَوَاقفُ الإمامِ الكَاظِمِ(ع)

كان هارون يعاني بشدّة من صلابة آل علي في مقابل سلطة العباسيّين، ولهذا كان يحاول قمعهم واسقاط هيبتهم في المجتمع، فهو يدفع الأموال الطائلة للشعراء المرتزقين المدّاحين لكي ينظموا الشعر في هجاء آل عليّ ومن جملة أولئك منصور النمري فقد أنشد مرة قصيدة في النيل من آل علي فأمر هارون جلاوزته ان يأخذوه الى بيت المال وان يفسحوا له المجال ليصيب منه ما شاء

وقد نفى جميع العلويّين الذين يسكنون بغداد الى المدينة، وقتل عدداً كبيراً منهم أو دسّ له السمّ

وحتّى انّه كان يُغاظ بشدّة من اقبال الناس على زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، ومن هنا فقد أصدر أوامره في تهديم القبر الشريف وما يحيط من بيوت مجاورة، وحتّى شجرة السدر التّي كانت نامية الى جانب المزار الطاهر أمر بها فقطعت

ولا شكّ انّ الإمام موسى الكاظم لا يمكنه ان يتفق مع سلطة كهذه ومن هنا كان يبارك نهضة الفخ، وذلك أيضاً هو السبب في انّه كان يتصل بشيعته بصورة خفيّة ويعيّن لكلّ فرد منهم ما يجب عليه القيام به ضد السلطة الجائرة في ذلك العصر.

وقد أثر عنه (عليه السلام) قوله لصفوان بن مهران وهو من أصحابه والمقربيّن اليه:

انّك جيّد من جميع الجهات، سوى أنّك تؤجّر جمالك لهارون.

فقال صفوان: اننّي أؤجرها له للسفر الى الحج، وأنا ايضاً لا أرافق تلك الجمال.

فقال الإمام: ألا تحبّ ـ لهذا السبب ـ ان يبقى هارون على قيد الحياة حتّى العودة من مكّة على أقلّ تقدير، لكيلا تخسر الجمال؟ ولكي يعطيك الاجرة؟

أجاب: نعم.

قال الإمام: كلّ من يحبّ بقاء الظالمين فهو يعدّ منهم

اجل انّ الإمام لم يتعاون مع الظالمين لحظة واحدة، وحتى عند ما كان واقعاً في قبضتهم:

ففي يوم من أيام سجن الإمام، إرسل هارون يحيى بن خالد الى السجن ليقول للإمام موسى بن جعفر انه اذا طلب منه العفو فسوف يطلق سراحه، لكن الإمام (عليه السلام) رفض ذلك

ولم يتخلّ الإمام (عليه السلام) عن كرامته و سلوكه الرفيع وطبعه الرافض للظلم والمساومة حتّى في أحلك الظروف وأصعب اللحظات.

نعم، ان هارون لا يستطيع ان يتحمّل وجود الإمام، ومن السذاجة ان نعتقد ان هارون كان يشعر بالحسد للإمام من ناحية منزلته المعنوية في قلوب الناس ولهذا أودعه السجن من هذا الجهة فحسب.

بل كان هارون مطلعاً عن طريق جواسيسه على الاتصال المستمر الخفّي بين الإمام وشيعته، وكان على علم ايضاً بانّ الإمام اذا سنحت له الفرصة فسوف يثور ضدّه أو يأمر اتباعه بالثورة عليه ليقوّض سلطته، وهو يلاحظ ان تلك الروح الرفيعة ليس فيها اي اثر للرضوخ والمساومة، واذا كان الإمام واضعاً يداً على يد في الظاهر لفترة معيّنة فانّ ذلك لا يعني السكوت وانّما يعني توقّفاً تكتيكيّاً بانتظار الضربة المناسبة، ولهذا فهارون يستبق الاحداث ويستخدم خداع العامة ويقف بوقاحة أمام قبر النبي (ص) ويخاطبه دون أن يستحي من غصب الخلافة واستعمال الظلم وأكل أموال الناس وتحويل الخلافة الى الملكية قائلا:

«اعتذر إليك يا رسول الله من القرار الذي اتخذته فيما يتعلّق بابنك موسى بن جعفر، فأنا لا أود في أعماقي ان اسجنه، لكنّي افعل ذلك خوفاً من وقوع الحرب بين امتك فتراق دماء بريئة !!».

وعندئذ يأمر بالقاء القبض على الإمام وهو مشغول بالصلاة الى جانب قبر النبي الاكرم (ص)، فينقل الى البصرة ليسجن فيها.

وقضى الإمام (عليه السلام) سنة كاملة في سجن والي البصرة عيسى بن جعفر، وقد أثرت خصال الإمام الكريمة في عيسى بن جعفر تأثيراً عميقا بحيث دفعته لان يكتب كتاباً الى هارون يقوله فيه:

ارجو ان تنقله مني الى مكان آخر واِلاّ فانّني سوف أطلق سراحه.

فأمر هارون بنقل الإمام (عليه السلام) الى بغداد وسجن عند الفضل بن الربيع، ثمّ نقل بعد فترة الى سجن الفضل بن يحيى وفي النهاية اودع في سجن السندي بن شاهك.

والسبب في هذه التنقلات المتعاقبة هو انّ هارون كلّما طلب من المشرفين على سجن الإمام ان يقضوا عليه فانّهم كانوا يمتنعون عن هذه الجريمة الشنيعة، حتى انتهى الدور الى هذا السجان الاخير الساقط وهو السندي بن شاهك فدسّ السمّ للإمام (عليه السلام) بايعاز من هارون، وبعد ان قضى الإمام مسموماً احضر مجموعة من الشخصيات المعروفة حتّى يشهدوا ان الإمام موسى الكاظم مات في السجن بصورة طبيعيّة وما اغتاله احد. وحاول بهذه الحيلة ان يبرء ساحة السلطة العباسيّة من قتل الإمام، اِلا ان حنكة الإمام وعظمته قد فضحت هؤلاء وأخزتهم، لانّه بمجرد ان حضر الشهود ونظروا اليه فان الإمام بادرهم بالقول وهو على تلك الحال السيئة من الضعف لشدّة التسمم:

لقد سمّني هؤلاء بتسع تمرات، ولهذا فسوف يخضر بدني غداً وسوف افارق الدنيا بعد غد

وبعد يومين ـ اي في الخامس والعشرين من شهر رجب 183 هـ حزنت السماء والارض وُنكب أهل الايمان ولا سيّما الشيعة بفقدان قائدهم الحقيقي وإمامهم الحبيب.

تَلامِذَة الإمام(ع)

لم يكن عمره الشريف يتجاوز العشرين عاماً حينما فارق والده الكريم الحياة الدنيا ليلتحق بالرفيق الأعلى، فانتقل اغلب تلامذة والده اليه واستمروا معه ما يزيد على الثلاثين عاماً ينالون من كنوزه

والذين تخرجوا في مدرسة الإمام الكاظم (عليه السلام) لا يضارعهم أحد في علم الفقه والحديث والكلام والمناظرة. ويعتبرون أنموذج العصر في الأخلاق الحسنة والعمل الصالح والخدمة للمسلمين.

1 ـ ابن أبي عمير:

2 ـ صفوان بن مهران:

3 ـ صفوان بن يحيى:

4 ـ علي بن يقطين:

5 ـ مؤمن الطاق:

6 ـ هشام بن الحكم:

استشهاده(ع)

جاء في الكافي : قبض (ع)لست خلون من رجب من سنة ثلاث وثمانين ومائة ، و هو ابن أربع أو خمس وخمسين سنة ، وقبض (ع)ببغداد في حبس السندي بن شاهك ، وكان هارون حمله من المدينة لعشر ليال بقين من شوال سنة تسع وسبعين ومائة ، وقد قدم هارون المدينة منصرفه من عمرة شهر رمضان ، ثم شخص هارون إلى الحج وحمله معه ثم انصرف على طريق البصرة ، فحبسه عند عيسى بن جعفر ثم أشخصه إلى بغداد فحبسه عند السندي بن شاهك ، فتوفي (ع)في حبسه ، ودفن ببغداد في مقبرة قريش .

  طباعة  | |  أخبر صديقك  | |  إضافة تعليق  | |  التاريخ : 2023/05/31  | |  القرّاء : 3207



البحث :

جديد الموقع :


 خطبة الجمعة لنائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب
 ندوة حوارية في المجلس الشيعي حول فكر الإمام شمس الدين: الخطيب وسلام وعبس ورحال يطرحون رؤية العالم الراحل
 العلامة الخطيب يزور الخيام ويواكب العائدين إليها: اليوم إنكسر جبروت العدو إنتصارا لكل لبنان
 خطبة الجمعة لنائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب
 العلامة الخطيب من الهرمل: نريد جيشا قويا ودولة تدافع عن لبنان وليس عن طائفة
 كلمة العلامة الخطيب خلال اللقاء الحواري الذي نظمه مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي
 رسالة الجمعة لنائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب
 كلمة العلامة الخطيب خلال الحفل التأبيني للراحل الحاج محمد قاسم الخطيب
 رسالة العلامة الخطيب إلى القادة العرب والمسلمين المجتمعين في المملكة العربية السعودية
 رسالة الجمعة لنائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب

مواضيع متنوعة :


 العلامة الخطيب يستقبل البطريرك ميناسيان
 العلامة الخطيب يستقبل رئيس المؤتمر الشعبي اللبناني المحامي كمال حديد،على رأس وفد من المؤتمر
 كلمة العلامة الخطيب في حسينية الامام علي (ع) في خندق الغميق
 العلامة الخطيب التقى المراجع الدينية وكبار العلماء في النجف ويعود مساء الى بيروت
 سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب يستقبل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة أمل الشيخ حسن المصري على رأس وفد
 كلمة العلامة الخطيب خلال المجلس العاشورائي الذي تقيمه جمعية التعليم الديني في قاعة الجنان
 رسالة الجمعة لنائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب
 سِيْرَةُ الإِمَامِ المَهْديِّ (عليه السلام)
 أهمية الحجّ في الإسلام - سماحة المفتي الشيخ يوسف رغدا
 الآثار التربوية للحج (2) - الشيخ محمد حجازي

إحصاءات :

  • الأقسام : 21
  • المواضيع : 111
  • التصفحات : 317658
  • التاريخ :
 
 
الموقع بإشراف : مركز الدراسات والتوثيق © في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى - لبنان
تصميم، برمجة وإستضافة :
الأنوار الخمسة © Anwar5.Net