|
أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس - طريق المطار وألقى خطبة الجمعة التي قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين واصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال تعالى في كتابه العزيز: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يهدي به الله يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
يتساءل المرء في ظل ما يجري في العالم من اضطرابات إجتماعية وسياسية وصراعات دائمة تُنتج الحروب وتتسبّب بفقدان الأمن والاستقرار والحياة الهادئة والعيش الرغيد.. يتساءل المرء في ظل هذا الواقع هل أن هذه هي حقيقة الحياة؟ وأنها وُجدت لتكون ساحة للصراع بين الاضداد، ينفي بعضها البعض الاخر، وأنه لا مجال للتعايش السلمي بينها؟ وأنها عبارة عن سلسلة من الكسر والانكسارات المتداولة (اي المتنقلة بين الجماعات) بحكم تبدّلات عوامل امتلاك ادوات الصراع، نتيجة المتغيّرات التي تُنتجها الحركة الاجتماعية الدائمة، وهي الثابت الوحيد في هذا الميدان الذي لا يمكن السيطرة عليه أو إخضاعه لأي سلطة بشرية مهما علا شأنها وامتلكت من أدوات السيطرة والاخضاع حيث تشكل أحد قوانين الاجتماع التي لا يمكن التحكم بها والسيطرة عليها، لأنه بمثابة السلطة العليا التي لا تخضع لاختيار البشر ومشيئتهم، وهي بمثابة السقف الذي لا يمكن تجاوزه على حد القوانين التكوينية، وهي مُسلّمة من المُسلَّمات التي لا تقبل التشكيك فضلاً عن الانكار؟
هذه هي إحدى المقولات التي تُفسّر الاجتماع الانساني فتربطه بحركة التاريخ غير القابلة للتغيير، وغير الخاضعة لإختيار البشر ومشيئتهم، وتعتبره تفسيراً علمياً غير قابل للنقد والمناقشة. وهناك اتجاه آخر لا يختلف عنه من حيث المبدأ والمنشأ ولا من حيث النتيجة، وهو أن الحياة ليست إلا ساحة للصراع. فكلاهما ينكر وجود إرادة أخرى تقف خلف هذه الحياة، وغاية حكيمة تبتغي الوصول اليها لأنها ركنت الى مقدمات خاطئة تعود الى ما تبنّته من مباديء في نظرية المعرفة التي اقتصرت فيها على الحواس الخمس كمصادر للمعرفة، منكرة أن يكون العقل والفطرة الانسانية أحد هذه المصادر، ما أودى بها الى التطرف وإنكار الماورائيات، أي الاعتقاد بالله تعالى، وأدّى ذلك الى الاعتقاد بعبثية الحياة وعدم وجود غاية عقلانية تبرر الوجود، وأن الفاعلية لحركة التاريخ التي لا مجال فيها للتغيير وفق المشيئة البشرية حسب التفسير الأول، وأن البقاء للأقوى وفق التفسير الآخر، وأنّ على الانسان أن يخوض هذا الصراع طالما انه موجود ومتمسك بهذه الحياة، او يختار الانتحار اذا ما أراد الخروج من حلبة الصراع، وهو اختيار الضعفاء الذين لا يملكون إرادة البقاء.
ولكنّ للاسلام رأياً أخر بحكم انه لا يرى انحصار مصادر المعرفة بما اقتصر عليه الماديون، فأضاف اليها مصدراً آخر كما ذكرنا وهو العقل والفطرة الانسانية التي أدت الى الاقرار بوجود الله تعالى الحكيم والعليم والقادر، وأدّى ذلك الى الاعتقاد بوجود غاية إلهية حكيمة من الخلق، وأن الوجود ليس عبارة عن سلسلة مستمرة من حلقات الصراع التي لا تنتهي، وأن الحياة ليست عبثية، وأنها غير محكومة لحركة التاريخ، وهو مذهب من مذاهب الجبر غايته أن مذهب الجبر الذي ذهب اليه بعض المسلمين منسوب الى الله، اما لدى القائلين بحركة التاريخ من الماديين فهو منسوب الى هذه الحركة المادية.
لقد ربط الاسلام حركة التغيير بفعل الانسان ومشيئته فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
فأقدار البشر لا تُصنَع لهم وإنّما هم من يصنعون أقدارهم، وهذه هي حركة التاريخ، فهم مختارون وليسوا مجبرين.
ثانياً: إن الحياة ليست عبثية، كما انها ليست هي الغاية ولا النهاية، بل هي ساحة للاختبار الإلهي، وأن الانسان يقطف ثمار جهاده في الحياة في الاخرة التي هي النهاية. وبهذا يكون
للعدل معنى تفتقده التفسيرات المادية، التي ترى انها إما محكومة بحركة التاريخ او بمقولة ان الحياة للأقوى، فكلاهما أمر لا اختيار له فيه. فالعدالة فيه هي أن تتحقّق النتائج الحتمية، إذ لا اختيار للانسان فيها. فغلبة الاقوياء هي محض العدالة وانكسار الضعفاء، ليس ظلماً لانه حكم الطبيعة. وبالنتيجة فإنها تُبرّر للأقوياء تسلّطهم وظلمهم فتبرئهم منها وتنسبها للطبيعة.
كما أن الصراع ليس إلا اختيار البشر وليس حكم الطبيعة. فالإنسان في مقدوره أن يختار السلام، كما أنّ في مقدوره أن يختار الصراع وأن يختار التعاون مع الاخرين كما يختار المواجهة، وليس مجبراً على أي منهما.
إنّ الفرق بين الاتجاهين أن للحياة معنى، فيما لو قلنا إن الامر خاضع لإرادة البشر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).. وبهذا تتحقّق العدالة، وليست لها معنى ولا مجال حين تنتفي مشيئة الانسان في تحقيق النتائج ويكون الانسان مغلوباً على أمره.
إنّ التفسير المادي لا يُعطي سوى معنىً شرير للحياة، ويجعل الانسان آلة تتصرّف به الاقدار، وبذلك ينفي عنه أي قيمة. فقيمته انما تنشأ من قيمة دوره في صنع الحياة.
لقد بنى الغرب نظامه السياسي على أساس هذه النظرية، ولكنه لم يستطع أن يُغيّر من فطرة الذين يحكمهم، وإن أمكنه أن يغطّيها بادّعاءاته واكاذيبه تصديقاً لقول الله تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ).
لقد بقيت هذه الفطرة كامنة في نفوسهم وتمظهرت في اعتراضاتهم على سياساته المؤيدة للظلم الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني، خاصة من حروب الابادة والقتل والتدمير، مُعبّرين عنها بالتظاهرات الصاخبة في البلدان الغربية، والمؤيّدة لحقّه في التحرّر والاستقلال واختيار المصير. وكان واضحاً كم هو التقصير في سعي شعوبنا للتواصل مع هذه الشعوب لإيضاح حقيقة ما يجري من ظلم وعدوان عليها. ولقد استطاع الشعب الفلسطيني أن يُحقّق بدماء أبنائه وتضحياته ما عجزت عنه دولنا ونخبنا طيلة الفترة الماضية التي لو انفقت جزءاً بسيطاً مما تنفقه على صفقات الاسلحة والكماليات، لوفَّرت على شعوبنا المقهورة الكثير من المعاناة وسيول الدماء التي سفكتها أنظمة الكفر الغربي المتحكّمة برقاب العالم بالاكاذيب والشعوذات، بأساليب شيطانية جديدة ومبتكرة، مع أن ما تحقّق ليس كافياً ويجب مع انكشاف هذه الحقيقة للشعوب الغربية، متابعة هذا الجهد للوصول الى فرض الحلول العادلة لقضايانا، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، والتي كان لوسائل التواصل الاجتماعي دورها، حيث أبدع القائمون عليها في استخدامها وإيصال المعلومات حول حقيقة ما يقوم به العدو من مذابح وقتل وابادة، فلم تكن أقل شأناً مما قام به المقاتلون الابطال في ساحات المعركة للوصول الى هذه النتائج المبهرة، فجزاهم الله خير جزاء المقاومين الشرفاء.
كما أننا نستغرب أشدّ الاستغراب أن تؤثّر المشاهد البربرية في غزة على الرأي العام الدولي، وخصوصاً في الغرب ودفع الناس للاعتراض في شوارع مدنهم للضغط على دولهم من أجل إيقاف هذا التوحّش، بينما تقف شعوبنا دون أن يكون لها أي ردّ فعل مؤثّر في هذا المجال، في حين تقف بعض الفئات مؤيّدة ومبرّرة لفعل العدو أو صامتة لا تصدر عنها صرخة أو حراك تُعبّر فيه عن تضامنها مع نفسها واعتراضها على ما يجري حتى بعد أن صرَّح العدو وبكل صلافة عن مخططه العدواني الذي لن يقتصر على غزة او سوريا أو اليمن أو العراق أو لبنان ومصر والسعودية وتركيا، وانما هو موجَّه لها جميعاً. يعني أن السكوت يشجع العدو على مزيد من الارتكابات وأن رقاب الجميع تحت المقصلة، وكان المفترض أن يتحسّس الجميع رأسه وينهض من هذا الرقاد.. ويا للعجب كيف يستطيع النوم من يرى عدواً له يتربَّص به شرّ المنون؟؟
وأقول للبنانيين الشرفاء: اذا كان العدو قد أيقن مع المعركة في غزة انه قد خسر الرهان فاضطر الى وقف القتال واستبدل الترهيب بشن الحرب على لبنان، فليس ذلك إلا ليحاول أن يفرض عليه بالترهيب والضغط النفسي ما عجز عن تحقيقه بالقتال، وهو لن يفلح في ذلك، وعلى السلطة اللبنانية أن تواجه هذه المحاولات بالمزيد من وحدة الموقف داخل الحكومة، والشعب اللبناني بالوحدة الوطنية المسنودة بالحق والمنطق، وألا تخضع السلطة لمنطق التهديد والضغوط والابتزاز، وأن تكون أمينة لمسؤولياتها الوطنية، فالنصر صبر ساعة، وعليها اذا كانت تريد بناء دولة حقيقية أن تبني أولاً مع رعاياها الثقة، فهو السند الحقيقي لها، وهو أهم من كل دعم خارجي. فأنتم سلطة الشعب لا سلطة الخارج على الشعب.
أما في ما يتعلق بالانتخابات فلا داعي لكل هذه الجلبة وذلك الضجيج حول تعديل قانون انتخابي نافذ، طالما أن اقتراع المغتربين ليس فيه تكافؤ فرص بين القوى السياسية المتنافسة. فانعدام هذا التكافؤ يُسقِط دستوريا أي قانون انتخابي، لأن حرية الحركة الانتخابية يجب أن تكون متاحة للجميع، وليس لقوى دون أخرى تتعرض للتضييق والاستفراد من جهات دولية فاعلة، وشريكة بشكل او بآخر في ما تتعرض له منطقتنا من مظالم.
ثم ان الحكومة يحقّ لها أن تطلب إدخال تعديلات على القانون الانتخابي، ولكن التعديلات لا يمكن أن تكون لحساب فريق على حساب آخر. نحن مع أن تتاح الفرص لكل لبناني مغترب او مقيم ومن يرغب بالمشاركة في العملية الانتخابية، ويمكنه أن يحضر الى البلد ويمارس حقه الانتخابي بكل حرية، أما التصويت من وراء البحار الذي يمكن أن يتاح له ولا يتاح لغيره، فذلك أمر لا يستوي مع مبدأ العدالة على الاطلاق.. والمتحمسون لاقتراع المغتربين يدركون هذه الحقيقة، ولكن إصرارهم على أن يكون الاقتراع في الخارج وتكبير حجم المشكلة الى حدود الانفجار، ليس هدفه الا أمرين لا ثالث لهما:
1 ـ إما تعطيل الانتخابات وأن يمدد المجلس النيابي لنفسه سنة أو أكثر، لأنهم يراهنون على تطورات معينة يعتقدون انها ستنال من منافسيهم مقتلاً سياسياً يضعفهم او يقصيهم وتخلو الساحة لهم.
2ـ أو تأمين كتل ناخبة من الخارج تُمكّنهم من الفوز بالاكثرية النيابية، وبالتالي الاستحواذ على السلطة الجديدة وفرض مشاريعهم السياسية واقصاء كل من يعارضهم وتغيير وجه البلد وطبيعته التوافقية التي كرسها اتفاق الطائف.
إنّنا نرفع الصوت متمسّكين بقوة بإتفاق الطائف وروحيته القائمة على الديموقراطية التوافقية الى أن يسكتمل تنفيذ بنود هذا الاتفاق ـ الدستور بإلغاء الطائفية السياسية والمنصوص في المادة 95 من الدستور على آلية إلغائها، فنصل الى إقامة دولة المواطنة التي لطالما نادى بها الامام المغيب السيد موسى الصدر، معتبراً ان اعتناق اللبنانين مبدأ "لبنان وطن نهائي لهم جميعاً"، هو الذي يحقق دولة الانسان، الدولة التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، وتكون الكفاءة هي المعيار في تولي المواطن اي وظيفة، من رأس الهرم حتى قاعدته.
وفي الخلاصة
إن البلد يحتاج إلى الكثير من الحكمة والتعقل تجنبا للإنفجار والمزيد من التدهور في جميع المجالات. فالرهان على العدوان وعلى الخارج لم يؤدِ سابقاً إلى نتائج حاسمة، وهو لن يؤدي في المستقبل إلى ما يطمح إليه البعض، اللهمّ إلا المزيد من الخراب، فلنتقِ الله في وطننا وشعبنا، والسلام على من اتبع الهدى.
|