أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ للَّهِ رَبِّ العالمين، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ وحده لا شريكَ لهُ ولا نظيرَ.
كلُّ شيءٍ خاشعٌ له، وكلُّ شيءٍ قائمٌ به، هو غنىً لكلِّ فقير، وعزٌّ لكلِّ ذليل، يسمعُ نُطقَ من تكلّم، ويعلمُ سرَّ من سكت، رزقُ مَن عاش عليه، ومَن مات فإليه مآبُهُ ومنقلبُه.
لا تُدرِكُهُ الأبصارُ فتُخبِرُ عنه، بل كانَ قبل الواصفينَ من خلقِه.
ما خلقَ الخلقَ لوحشةٍ، ولا استعملهم لمصلحةٍ، ولا يسبقُهُ من طلبَ، ولا يفلتُه من هربَ. هو قوّةُ كلِّ ضعيفٍ، ومفزعُ كلِّ ملهوف.
والصلاةُ والسلامُ على رسولهِ المصطفى، الذي صغّرَ الدنيا في عينه، وهَوَّنَ شأنَها، فأعرضَ عنها بقلبهِ، وأماتَ ذِكرَها في نفسِه، أحبَّ أن تغيبَ زينتُها عن بصرهِ لئلّا يتّخذَ منها متاعًا، ولا يُقيمَ فيها مقامًا.
أبلَغَ عن ربِّه معذرًا، ونصحَ لأمّتِه منذرًا، ودعا إلى الجنةِ مبشِّرًا.
اختارَهُ اللهُ من شجرةِ الأنبياء، ومشكاةِ الضياء، وذؤابةِ العلياء، وسرّةِ البطحاءِ.
بعثهُ شهيدًا، وبشيرًا، ونذيرًا، خيرَ البريّةِ طفلًا، وأكملَهم كهولًا، أطهرَ الطاهرينَ شِيمة، وأجودَ السحابِ ديمَة، ومصباحَ الظلمةِ، وينبوعَ الرحمة.
اللهمَّ أعلِ بِنَاءَهُ على بُنيانِ البانين، وأكرِمْ نُزلَهُ لديك، وشرفْ منزلتَهُ، وآتهِ الوسيلةَ، وامنحهُ السَّناءَ والفضيلة.
وصلِّ على آله، شجرةِ النبوّة، ومحطِّ الرسالة، ومختلفِ الملائكة، ومعادنِ العلم، وينابيعِ الحكمة.
اللهمَّ احشُرْنا في زُمرَتِهم غيرَ خزايا، ولا نادمين، ولا ناكبين، ولا ناكثين، ولا ضالين، ولا مُضلِّين، ولا مفتونين، وارزقنا بحُزننا على ابنِ بنتِ رسولِك، الصادقِ ابنِ الصادقين، حُسنَ الثوابِ، وأنِلْنا بحبِّه واتباعِه أكرمَ جوائزِك، وأفضلَ نوافلك، وشفاعاتِ نبيِّك محمدٍ صلّى اللهُ عليه وآله، وآلِه الطاهرين.
قال أميرُ المؤمنين عليه السلام:
«إنَّ أفضلَ ما توسلَ بهِ المتوسلونَ إلى اللهِ سبحانه: الإيمانُ بهِ وبرسولِهِ، والجهادُ في سبيلِهِ، فإنّهُ ذروةُ الإسلام، وكلمةُ الإخلاصِ فإنّها الفطرة، وإقامُ الصلاةِ فإنّها الملّة، وإيتاءُ الزكاةِ فإنّها فريضةٌ واجبة، وصومُ شهرِ رمضانَ فإنّهُ جُنّةٌ من العقاب، وحجُّ البيتِ واعتمارُهُ فإنّهما ينفيانِ الفقرَ ويغسلانِ الذنب، وصِلةُ الرحمِ».
أيُّها الإخوةُ المؤمنون، السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته،
لا بدَّ لنا من استعراضٍ، ولو موجزٍ، لمسارِ الدولةِ اللبنانية، منذ ولادةِ هذا الكيان، حتّى يومِنا هذا، وتقييمٍ جادٍّ لمسيرتِها، ومدى نجاحِها في أداءِ وظيفتها وتحقيقِ الغايةِ من إنشائها.
فالدولُ لا تُبنى عبثًا، بل تتولّدُ عن عواملَ موضوعيةٍ متشابكة: جغرافية، ثقافية، اجتماعية، تاريخية، ومصالح عامة تشتركُ فيها كلُّ المكوّنات، وتتوافقُ على إقامةِ كيانٍ تُؤمنُ بأنّهُ الضامنُ لمصالحِها ووجودِها.
وهذا الاندماجُ في وحدةٍ تُسمّى "شعبًا"، لا يتمُّ إلا بالإحساسِ المشتركِ بوحدةِ المصير، والمصلحة، والوجود، رغم اختلافِ الخصوصياتِ القوميةِ والمذهبيةِ والثقافية، لأنّ وحدةَ الجغرافيا تفرضُ نفسها إطارًا جامعًا.
لكنّ أيَّ شعورٍ لدى مكوّنٍ من مكوّناتِ الشعبِ بالتهميشِ أو بالاستضعافِ يُهدِّدُ هذه الوحدة، ويفتّتُ هذا الكيان، ويمنعُ تحققَ غايته، ويُسقطُ شرطهُ الأول وهو: الاندماج.
فالإخضاعُ والتغلبُ يُناقضُ روحَ الشراكة، ويُفضي إلى تمزّقٍ وتفكّكٍ مأساويٍّ، لن يكونَ إلّا دمويًا، أو على الأقلِّ يُضعفُ الكيان، ويجعلُهُ لقمةً سائغةً للأطماعِ الخارجية.
لقد اندثرتْ دولٌ كثيرةٌ رغم قوّتها، لا بفعلِ عدوٍّ خارجي، بل لأسبابٍ داخليةٍ تفشّت فيها، وكانت العاملَ الحاسمَ في انهيارها، كما يُقرّ بذلك علمُ تحوّلاتِ الأمم.
فهل ما يشهدهُ لبنانُ اليوم من اهتزازٍ مستمرٍّ، وتخلخلٍ عند كلّ طارئٍ إقليميٍّ أو عالميّ، مردُّهُ إلى ضعفٍ في عناصرِ نشأتهِ الأولى؟
وهل غابتْ مقوّماتُ التماسك، فانكشفتْ بنيتُهُ أمامَ كلّ ريح؟
لقد آنَ أوانُ المراجعة، وإعادةِ البناءِ على أسسٍ تحفظُ الكيانَ من التفكّك، وتنقلهُ من التوتّرِ الدائمِ إلى الاستقرارِ المستدام، وتحفظُ ثرواتِه، وتصونُ كرامتَه، وتُفشلُ مشاريعَ الطامعينَ به، والمتربّصينَ بخيراتهِ وبموقعِه.
نحن نؤمنُ بضرورةِ الحفاظِ على هذا الكيانِ وتطويرِه، لأنهُ يستحقُّ الحياة، ولأنّ اللبنانيين شعبٌ واحدٌ، يتشاركونَ القيمَ الأخلاقيةَ والمعنويةَ ذاتها، ويُدركونَ أنّ محاولاتِ التمزيقِ ذاتُ منشأٍ خارجيٍّ، تستهدفُ مصالحَ الأمةِ، وتخدمُ المشروعَ الصهيونيّ التلمودي، الذي لا يرى في الآخرينَ سوى حيوانات خُلقت على هيئة بشر لخدمتهم، كما يُصرّحون دون حياء.
إنّ من يُشيعُ أجواءَ العداءِ تجاهَ جمهورِ المقاومة، ويُشيطنها بأكاذيبَ متكرّرةٍ، واتهاماتٍ فارغةٍ، وتشكيكاتٍ مدفوعةٍ من الخارج، عبرَ إعلامٍ مزيّف، إنّما يخوضُ حربًا من نوعٍ آخر، لن تُفلحَ كما لم تُفلح الحربُ العسكريّةُ من قبل.
بل إنّ هذه المحاولاتِ ستزيدُ اللبنانيينَ صلابةً وتمسّكًا بوطنِهم، وبجيشِهم، ومقاومتِهم، التي هي السندُ الحقيقيُّ لردعِ العدوان، واستعادةِ الأرض، وفرضِ الالتزامِ بالاتفاقات، والعيشِ الآمنِ في القرى بعد الإعمار.
أما الحديثُ عن "نزع السلاح"، فهو لغةُ عداءٍ، لا وطنية، وهي دعوةٌ للعدوّ ليستمرَّ في عدوانه.
فليُترك هذا الملفُّ لحوارٍ هادئٍ، بعيدًا عن المزايداتِ الإعلامية، والاستثمارِ السياسي، وليكن قرارُهُ وطنيًّا جامعًا، لا انبطاحاً أمام المطالب الخارجية.
ومصداقيّةُ الحكومةِ اليوم في تنفيذِ التزاماتِها، لا في تعليقِ الإعمارِ على انسحابِ العدوّ.
بيانُها الوزاريُّ واضح، ولكنّ تصريحاتِ بعضِ الوزراء لا تنسجمُ معه، بل تعكسُ سياساتِ أحزابِهم، لا مصلحةَ الشعبِ.
فليُعاملِ الجميعُ على قدمِ المساواة، ولتُستعدْ هيبةُ الدولةِ، عبرَ احترامِ سيادتها، وردعِ كلّ تجاوزٍ من أيّ مبعوثٍ خارجيٍّ يسيءُ إليها.
وأخيرًا، مضى على وقفِ العدوانِ ما يناهزُ ستةَ أشهر، ولم يتحقّق شيءٌ من التزاماتِ الحكومة.
وهي، دون شكّ، أحوجُ ما تكونُ اليومَ إلى تنفيذِ وعودِها، لأنّ ثقةَ الشعبِ بها أصبحتْ على المحكّ، وقد تصبحُ قريبًا في خبرِ كان.
|