وِلادَةُ الإِمَامِ الرِّضَا(ع)
وُلد الإمام علي بن موسى الرضا(ع) في المدينة المنورة عام 148 للهجرة في اليوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة، وبولادته خرج النور الثامن من أنوار الولاية فأضاء بفضله ظلمات هذا الحياة، وكانت أمه من النساء العظيمات اللواتي اشتهرن بالإيمان والتقوى، وهي تدعى(نجمة)
وكانت في أيام إمامته بقية ملك الرشيد ، وملك محمد الأمين بعده ثلاث سنين وخمسة وعشرين يوما ، ثم خلع الأمين واجلس عمه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة أربعة عشر يوما ، ثم اخرج محمد ثانية وبويع له ، وبقي بعد ذلك سنة وسبعة أشهر ، وقتله طاهر بن الحسين ، ثم ملك المأمون : عبد الله بن هارون بعده عشرين سنة ، واستشهد (ع)في أيام ملكه .
الرِّضَا إِسْمٌ اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى
جاء في كتاب(عيون أخبار الرضا) عن البزنطي قال : قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن موسى (ع): إن قوما من مخالفيكم يزعمون أن أباك إنما سماه المأمون الرضا لما رضيه لولاية عهده ؟ فقال: كذبوا والله وفجروا بل الله تبارك وتعالى سماه بالرضا لأنه كان رضي لله عز وجل في سمائه ورضي لرسوله والأئمة بعده في أرضه ، قال : فقلت له : ألم يكن كل واحد من آبائك الماضين رضي لله عز وجل ولرسوله والأئمة بعده ؟ فقال بلى ، فقلت : فلم سمي أبوك من بينهم الرضا ؟ قال : لأنه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه ، ولم يكن ذلك لاحد من آبائه عليهم السلام فلذلك سمي من بينهم الرضا (ع).
وعن سليمان بن حفص قال : كان موسى بن جعفر عليهما السلام يسمي ولده عليا (ع)الرضا وكان يقول : ادعوا لي ولدي الرضا وقلت لولدي الرضا ، وقال لي ولدي الرضا وإذا خاطبه قال : يا أبا الحسن .
النَّصُّ عَلَيْهِ بِالخِلافَة
في عيون أخبار الرضا: عن يزيد بن سليط الزيدي قال : لقيت موسى بن جعفر (ع)فقلت أخبرني عن الامام بعدك بمثل ما أخبر به أبوك قال : فقال : كان أبي في زمن ليس هذا مثله ، قال يزيد : فقلت من يرض منك بهذا فعليه لعنة الله قال : فضحك ثم قال : أخبرك يا با عمارة أني خرجت من منزلي فأوصيت في الظاهر إلى بني وأشركتهم مع علي ابني وأفردته بوصيتي في الباطن .
ولقد رأيت رسول الله (ص)في المنام وأمير المؤمنين (ع)معه ومعه خاتم وسيف وعصا وكتاب وعمامة فقلت له : ما هذا ؟ فقال : أما العمامة فسلطان الله عز وجل وأما السيف فعزة الله عز وجل وأما الكتاب فنور الله عز وجل وأما العصا فقوة الله عز وجل وأما الخاتم فجامع هذه الأمور ، ثم قال رسول الله (ص): والامر يخرج إلى علي ابنك .
قال : ثم قال : يا يزيد إنها وديعة عندك فلا تخبر بها إلا عاقلا أو عبدا امتحن الله قلبه للايمان أو صادقا ولا تكفر نعم الله تعالى وإن سئلت عن الشهادة فأدها فإن الله تبارك وتعالى يقول " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " وقال عز وجل " ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " فقلت : والله ما كنت لأفعل هذا أبدا قال : ثم قال أبو الحسن (ع): ثم وصفه لي رسول الله (ص)فقال : علي ابنك الذي ينظر بنور الله ويسمع بتفهيمه وينطق بحكمته يصيب ولا يخطئ ويعلم ولا يجهل قد ملئ حلما وعلما وما أقل مقامك معه أنما هو شئ كأن لم يكن ، فإذا رجعت من سفرك فأصلح أمرك وافرغ مما أردت فإنك منتقل عنه ومجاور غيره فاجمع ولدت وأشهد الله عليهم جميعا وكفى بالله شهيدا .
ثم قال : يا يزيد إني أؤخذ في هذه السنة وعلي ابني سمي علي بن أبي - طالب عليه السلام وسمي علي بن الحسين (ع)أعطي فهم الأول وعلمه وبصره ورداءه وليس له أن يتكلم إلا بعد هارون بأربع سنين فإذا مضت أربع سنين فسله عما شئت يجبك إنشاء الله تعالى .
كَرَامَاتُ الإِمَامِ الرِّضَا(ع)
عن الريان بن الصلت قال : كنت بباب الرضا (ع)بخراسان فقلت لمعمر : إن رأيت أن تسأل سيدي أن يكسوني ثوبا من ثيابه ويهب لي من الدراهم التي ضربت باسمه ، فأخبرني معمر أنه دخل على أبي الحسن الرضا (ع)من فوره ذلك ، قال : فابتدأني أبو الحسن فقال : يا معمر لا يريد الريان أن نكسوه من ثيابنا أو نهب له من دراهمنا ؟ قال : فقلت له : سبحان الله هذا كان قوله لي الساعة بالباب ، قال : فضحك ثم قال : إن المؤمن موفق قل له فليجئني ، فأدخلني عليه فسلمت فرد علي السلام ودعا لي بثوبين من ثيابه فدفعهما إلي ، فلما قمت وضع في يدي ثلاثين درهما .
وفي عيون أخبار الرضا (ع) ، عن عبد الله بن محمد الهاشمي قال : دخلت على المأمون يوما فأجلسني وأخرج من كان عنده ، ثم دعا بالطعام فطعمنا ثم طيبنا ثم أمر بستارة فضربت ثم أقبل على بعض من كان في الستارة ، فقال : بالله لما رثيت لنا من بطوس فأخذت تقول :
سقيا لطوس ومن أضحى بها قطنا من عترة المصطفى أبقى لنا حزنا
قال : ثم بكى فقال لي : يا عبد الله أيلومني أهل بيتي وأهل بيتك أن نصبت أبا الحسن الرضا (ع)علما فوالله لأحدثنك بحديث تتعجب منه جئته يوما فقلت له : جعلت فداك إن آباءك موسى وجعفرا ومحمدا وعلي بن الحسين (ع)كان عندهم علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وأنت وصى القوم ووارثهم ، وعندك علمهم ، وقد بدت لي إليك حاجة ، قال : هاتها فقلت : هذه الزاهرية حظيتي ولا أقدم عليها أحدا من جواري وقد حملت غير مرة وأسقطت وهي الآن حامل فدلني على ما تتعالج به فتسلم ، فقال : لا تخف من اسقاطها فإنها تسلم وتلد غلاما أشبه الناس بأمه وتكون له خنصر زائدة في يده اليمنى ليست بالمدلاة وفي رجله اليسرى خنصر زائدة ليست بالمدلاة فقلت في نفسي أشهد أن الله على كل شئ قدير ، فولدت الزاهرية غلاما أشبه الناس بأمه في يده اليمنى خنصر زائدة ليست بالمدلاة وفي رجله اليسرى خنصر زائدة ليست بالمدلاة ، على ما كان وصفه لي الرضا (ع)فمن يلومني على نصبي إياه علما : والحديث فيه زيادة حذفناها ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وروي عن محمد بن الفضل الهاشمي قال : لما توفي موسى بن جعفر (ع)أتيت المدينة فدخلت على الرضا (ع)فسلمت عليه بالأمر وأوصلت إليه ما كان معي ، وقلت : إني سائر إلى البصرة ، وعرفت كثرة خلاف الناس وقد نعي إليهم موسى (ع)وما أشك أنهم سيسألوني عن براهين الامام ، ولو أريتني شيئا من ذلك فقال الرضا (ع)لم يخف علي هذا فأبلغ أولياءنا بالبصرة وغيرها أني قادم عليهم ولا قوة إلا بالله ثم أخرج إلي جميع ما كان للنبي عند الأئمة من بردته وقضيبه وسلاحه وغير ذلك ، فقلت : ومتى تقدم عليهم ؟ قال : بعد ثلاثة أيام من وصولك ودخولك البصرة ، فلما قدمتها سألوني عن الحال فقلت لهم : إني أتيت موسى بن جعفر قبل وفاته بيوم واحد فقال إني ميت لا محالة فإذا واريتني في لحدي فلا تقيمن وتوجه إلى المدينة بودائعي هذه ، وأوصلها إلى ابني علي بن موسى فهو وصيي وصاحب الامر بعدي ، ففعلت ما أمرني به وأوصلت الودائع إليه وهو يوافيكم إلى ثلاثة أيام من يومي هذا فسألوه عما شئتم .
فابتدر الكلام عمرو بن هداب عن القوم وكان ناصبيا ينحو نحو التزيد والاعتزال ، فقال : يا محمد إن الحسن بن محمد رجل من أفاضل أهل هذا البيت في ورعه وزهده وعلمه وسنه ، وليس هو كشاب مثل علي بن موسى ولعله لو سئل عن شئ من معضلات الاحكام لحار في ذلك ، فقال الحسن بن محمد وكان حاضرا في المجلس : لا تقل يا عمرو ذلك فان عليا على ما وصف من الفضل ، وهذا محمد بن الفضل يقول : إنه يقدم إلى ثلاثة أيام فكفاك به دليلا ، وتفرقوا .
فلما كان في اليوم الثالث من دخولي البصرة إذا الرضا (ع)قد وافى فقصد منزل الحسن بن محمد داخلا له داره ، وقام بين يديه ، يتصرف بين أمره ونهيه فقال : يا ( حسن بن ) محمد أحضر جميع القوم الذين حضروا عند محمد بن الفضل وغيرهم من شيعتنا وأحضر جاثليق النصارى ورأس الجالوت ، ومر القوم يسألوا عما بدا لهم فجمعهم كلهم والزيدية والمعتزلة ، وهم لا يعلمون لما يدعوهم الحسن بن محمد فلما تكاملوا ثني للرضا (ع)وسادة فجلس عليها ثم قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، هل تدرون لم بدأتكم بالسلام ؟ قالوا : لا ، قال : لتطمئن أنفسكم ، قالوا : من أنت يرحمك الله قال : أنا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب وابن رسول الله (ص)صليت اليوم صلاة الفجر في مسجد رسول الله (ص)مع والي المدينة ، وأقرأني بعد أن صلينا كتاب صاحبه إليه واستشارني في كثير من أموره فأشرت عليه بما فيه الحظ له ووعدته أن يصير إلى بالعشي بعد العصر من هذا اليوم ، ليكتب عندي جواب كتاب صاحبه ، وأنا واف له بما وعدته ولا حول ولا قوة إلا بالله .
فقالت الجماعة : يا ابن رسول الله (ص)ما نريد مع هذا الدليل برهانا وأنت عندنا الصادق القول ، وقاموا لينصرفوا فقال لهم الرضا عليه السلام لا تتفرقوا فانى إنما جمعتكم لتسألوا عما شئتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلا عندنا أهل البيت فهلموا مسائلكم .
فابتدأ عمرو بن هداب فقال : إن محمد بن الفضل الهاشمي ذكر عنك أشياء لا تقبلها القلوب ، فقال الرضا (ع): وما تلك ؟ قال : أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله وأنك تعرف كل لسان ولغة ، فقال الرضا (ع): صدق محمد بن الفضل فأنا أخبرته بذلك فهلموا فاسألوا قال : فانا نختبرك قبل كل شئ بالألسن واللغات وهذا رومي وهذا هندي وفارسي وتركي فأحضرناهم فقال (ع)فليتكلموا بما أحبوا أجب كل واحد منهم بلسانه إنشاء الله . فسأل كل واحد منهم مسألة بلسانه ولغته ، فأجابهم عما سألوا بألسنتهم ولغاتهم فتحير الناس وتعجبوا وأقروا جميعا بأنه أفصح منهم بلغاتهم .
ثم نظر الرضا (ع)إلى ابن هداب فقال : إن أنا أخبرتك أنك ستبتلى في هذه الأيام بدم ذي رحم لك كنت مصدقا لي ؟ قال : لا ، فان الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى ، قال (ع): أو ليس الله يقول : " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " فرسول الله عند الله مرتضى ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما شاء من غيبه ، فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وإن الذي أخبرتك به يا ابن هداب لكائن إلى خمسة أيام فإن لم يصح ما قلت في هذه المدة فاني كذاب مفتر ، وإن صح فتعلم أنك الراد على الله ورسوله ، وذلك دلالة أخرى ، أما إنك ستصاب ببصرك وتصير مكفوفا فلا تبصر سهلا ولا جبلا ، وهذا كائن بعد أيام ، ولك عندي دلالة أخرى إنك ستحلف يمينا كاذبة فتضرب بالبرص .
قال محمد بن الفضل : تالله لقد نزل ذلك كله بابن هداب ، فقيل له : صدق الرضا أم كذب ؟ قال : والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنه كائن ولكنني كنت أتجلد .
عِبَادَةُ الإِمَامِ الرِّضَا(ع)
عن الصولي قال : حدثتني جدتي أم أبي واسمها عذر قالت : اشتريت مع عدة جوار من الكوفة ، وكنت من مولداتها قالت : فحملنا إلى المأمون فكنا في داره في جنة من الأكل والشرب والطيب وكثرة الدنانير فوهبني المأمون للرضا (ع)فلما صرت في داره فقدت جميع ما كنت فيه من النعيم وكانت علينا قيمة تنبهنا من الليل ، وتأخذنا بالصلاة ، وكان ذلك من أشد ما علينا فكنت أتمنى الخروج من داره إلى أن وهبني لجدك عبد الله بن العباس فلما صرت إلى منزله كأني قد أدخلت الجنة .
قال الصولي : وما رأيت امرأة قط أتم من جدتي هذه عقلا ولا أسخى كفا وتوفيت في سنة سبعين ومائتين ولها نحو مائة سنة ، فكانت تسأل عن أمر الرضا (ع)كثيرا فتقول : ما أذكر منه شيئا إلا أني كنت أراه يتبخر بالعود الهندي ( النيئ ) ويستعمل بعده ماء ورد ومسكا ، وكان عليه السلام إذا صلى الغداة وكان يصليها في أول وقت ثم يسجد فلا يرفع رأسه إلى أن ترتفع الشمس ، ثم يقوم فيجلس للناس أو يركب .
ولم يكن أحد يقدر أن يرفع صوته في داره كائنا من كان إنما كان يتكلم الناس قليلا ، وكان جدي عبد الله يتبرك بجدتي هذه ، فدبرها يوم وهبت له فدخل عليه خاله العباس بن الأخنف الحنفي الشاعر فأعجبته فقال لجدي : هب لي هذه الجارية ، فقال : هي مدبرة ، فقال العباس بن الأخنف : يا عذر زين باسمك العذر * وأساء لم يحسن بك الدهر .
مِنْ مَكَارِمِ أَخْلاقِه(ع)
يقول «ابراهيم بن العبّاس»:
ما رأيت الامام الرّضا (عليه السلام) ابداً وهو يجفو في الحديث مع أحد، ولم اشاهده اطلاقاً يقطع حديث أحد قبل ان يتمّ كلامه، وما كان يردّ محتاجاً اذا كان يستطيع قضاء حاجته، ولم يمدّ رجله بحضور الاخرين، ولم اره اطلاقا يقسو في الكلام مع خدمه وغلمانه، ولا يضحك قهقهةً وانّما بصورة تبسّم، واذا فُرشت مائدة الطّعام فهو يدعو اليها جميع افراد البيت وحتّى الحارس والمشرف على الحيوانات، فهؤلاء جميعاً كانوا يتناولون الطّعام مع الامام. وكان لا ينام في اللّيل اِلا قليلاً، وأمّا اغلب اللّيل فقد كان مستيقظاً فيه، وكثير من الليالي يحييها حتى الصباح ويقضيها في العبادة، وكان يصوم كثيراً ولا يترك صيام الايّام الثّلاثة من كل شهر، وكثيراً ما يقوم بأفعال الخير والانفاق بصورة سرّيّة، وفي الغالب كان يساعد الفقراء خفية في اللّيالي الحالكة الظّلام.
يقول «محمّد بن أبي عباد»:
كان فراشه (ع) حصيراً في الصّيف وقطعة من السجّاد الصوفّي في الشّتاء، واما ملابسه فقد كانت غليظة وخشنة (في داخل بيت)، وعندما كان يساهم في المجالس العامّة فانّه يجمّل نفسه (ويلبس الملابس الجيّدة والمتعارفة)
وفي احدى اللّيالي نزل عنده ضيف، وفي اثناء الحديث طرأخلل على المصباح الذي كانوا يستضيئون به فمدّ الضّيف يده لكي يصلح المصباح فلم يدعه الامام وانّما قام هو بالمهمّة قائلاً: نحن أناس لا نستخدم ضيوفنا.
وفي احدى المرّات استعان شخص بالامام في الحمّام (وهو لا يعرفه) في ازالة الاوساخ عن جسمه، فاستجاب الامام (ع) وبدأ ينظّف جسم ذلك الرّجل، فجاء الاخرون اليه وبينّوا له ان هذا هو الامام، فأخذ الرّجل يتعذر اليه وقد استولى عليه الخجل، اِلاّ انّ الامام مضى في مهمّته تغير ملتفت الى اعتذاره وكان يسلّيه بانّه لم يحدث ايّ شيء
وجاء شخص للامام قائلاً له: والله ليس هناك على الارض من يصل اليكم في الفضيلة وشرف الاباء. فردّ الامام: انّ التّقوى شرفتهم وطاعة الله سبحانه كرمثهم
يقول رجل من اهل بلخ:
كنت مرافقاً للامام الرّضا خلال سفره الى خراسان، وفي احد الايّام جاءوا بالمائدة فدعا الامام (ع) اليها جميع الخدم والغلمان وحتى ذوي البشرة السّوداء ليشاركوه في الطعّام.
فقلت للامام: فداك نفسي، أليس من الافضل ان يجلس هؤلاء الى مائدة منفصلة. فقال لي: الزم السكوت فَربّ الجميع واحد وابونا واحد وأمّنا واحدة، والثواب ايضا يكون على الاعمال
يقول «ياسر» وهو خادم للامام:
لقد أوصانا الامام الرّضا (ع) بأنّني اذا وقفت على رؤوسكم ( ودعوتكم لعمل من الاعمال ) وكنتم مشغولين بتناول الطّعام فلا تنهضوا حتّى تتموا طعامكم. ولهذا فكثيروا ما كان يصادف ان ينادينا الامام فنجبه بأنّنا مشغولون بتناول الطعام، فيقول (ع) دعوهم حتّى ينهتوا من طعامهم
وفي احد الايام جاء الى الامام غريب فسلّم عليه وقال: أنا من محبّيك ومحبّي آبائك واجدادك، وقد عدت من حجّ بيت الله الحرام ونفدت اموالي التي كنت احملها معي، فان كنت راغباً فتلطّف عليّ بمبلغ من المال يوصلني الى وطني، فاذا وصلت فسوف اتصدق على الفقراء بما يعادله بالنّيابة عنك، لانّني لست فقيراً في بلادي وقد ألمّت بي الحاجة في السّفر.
فنهض الامام وذهب الى غرفة اخرى وجاء بمائتي دينار واخرج يده من فوق الباب ونادى ذلك الشّخص قائلاً له: خذ هذه المائتين من الدّنانير واجعلها زاد سفرك وتبرّك بها، ولسى من الضرورّي ان تتصدّق بما يعادلها...
فأخذه الرّجل وانصرف، وخرج الامام من تلك الغرفة وعاد الى مكانه الاوّل، ولمّا سُئل الامام لماذا تصرّفت بهذه الصّورة بحيث لا يراك الرّجل أثناء أخذه الدّنانير؟
اجاب (ع): حتّى لا ارى في وجهه ذلّ السؤال وحياءه... فأئمّتنا المعصومون لم يكتفوا بالقول في مجال تربية ابتاعهم وهدايتهم، وانّما كانوا يهتمّون بهم في مجال اعمالهم ويراقبون بصورة خاصّة، وينبّهونهم على أخطائهم خلال مسيرة الحياة حتّى يكفّوا من الانحراف ويعودا الى الرّشد، وحتّى يتعلّم الاخرون والمستقبليّون أيضاً.
يقول «سليمان الجعفري» وهو من أصحاب الامام الرّضا (ع) :
كنت عند الامام لبعض الشّؤون، ولما انتهى غرضي اردت ان استأذن فقال لي الامام: كن معنا هذه اللّيلة.
فذهبت مع الامام الى البيت، وكان وقت الغروب، فوجدنا غلمان الامام منهمكين في البناء ولا حظ الامام بينهم شخصاً غريباً فسأل: من هو الرّجل؟
فقيل له: جئنا به ليساعدنا وسوف ندفع اليه شيئا. فقال (ع): هل عيّنتم أجره؟
قالوا: كلاّ ! انه يرضى بأيّ شيء نعطيه.
فغضب الامام وتألّم. واتجهتُ الى الامام وقلتُ له: فداك روحي لا تؤذ نفسك...
قال: لقد نبّهتهم عدّة مرّات على ان لا يأتوا بأحد لعمل اِلاّ اذا كانوا قد عيّنوا أجره من قبل واتّفقوا معه على شيء محدد. فمن ينجز عملاً بدون اتفاق سابق وأجر معين فحتى لواعطيته ثلاثة اضعاف اجره فهو يتخيّل انك اعطيته أقلّ من اجرته، لكنّك اذا اتّفقت معه على شيء فان اعطيته ذلك المقدار المعيّن فسوف يكون راضياً منك لانّك قد نفذت الاتّفاقيّة، وان زدت في العطاء على المقدار المعيّن (وان كان الزائد شيئا بسيطاً وقليلاً) فسوف يعرف انّك قد زِدته فيغدو شاكراً
ينقل احمد بن أبي نصر البزنطي (وهو يُعدّ من كبار أصحاب الامام الرّضا (ع): لقد ذهبنا الى الامام انا وثلاثة آخرون من اصحابه، وجلسنا عنده ساعة، ولمّا اردنا العودة قال لي الامام:
يا أحمد ! اجلس انت. فذهب رفقائي وبقيتُ انا عند الامام، وكانت لديّ بعض الاسئلة فانتهزت الفرصة وسألته عنها فأجابني، وقد انقضى شطر من اللّيل، فأردت ان استأذن منه، فقال لي: أتذهبُ ام تبقى عندنا؟
فقلت: كماه تأمرني، ان احببتَ ان ابقي بقيت، وان امرتني بالمغادرة غادرت.
قال: ابق هنا، وهذا هو فراشك ( واشار الى لحاف موجود هناك ) . وعندئذ نهض الامام وذهب الى غرفته. فسجدت انا من شدّة الشّوق وقلت: الحمد الله على انّ حجّة الله في الارض ووارث علوم الانبياء قد اختصّني بهذا المقدار من الحبّ واللطف من بين هؤلاء أشخاص الذين جاء والزيارته.
وكنتُ في اثناء السّجود فعرفت انّ الامام قد عاد الى الغرفة التي انا فيها فنهضت. وامسك الامام بيدي وضَغَط عليها قائلاً:
يا احمد ! انّ أمير المؤمنين (ع) ذهب الى عيادة «صعصعة بن صوحان» (وهو من اصحابه المقرّبين)، ولما اراد الانصراف قال له :
«يا صعصعة ! لا تفخر على اخوانك بانّني قد جئت الى عيادتك (اي انّ عيادتي لك لا ينبغي ان تدفعك لتعد نفسك افضل منهم) ولا تنس الخوف من الله وكن تقيّاً ورِعاً وتواضع لله وعندئذ يمنّ عليك الله بالرفعة والعوّ»
فالامام (ع بهذا التّصرّف وهذا الكلام قد حذّره بانّ ايّ عامل لا يمكن ان يحلّ صياغة الذّات وتربية النّفس والعمل الصّالح، ولا ينبغي للانسان ان يستولي عليه الغرور بسبب ايّ امتياز يسكبه، وحتّى القرب من الامام وعنايته وحبّه لا يبغي ان يصبح وسيلة للتّفاخر والمباهاة والاحساس بالعلوّ والارتفاع على الاخرين.
الإمَام الرضا(ع) في زَمن هارون وولديه الأمين والمأمون
عاصر الامام عليّ بن موسى الرّضا (ع) خلال فترة امامته خلافة هارون الرّشيد وولديه «الامين» و«المأمون»، كانت عشر سنوات منها مقارنة للسنّين الاخيرة من سلطة هارون، وخمس سنوات مع حكومة الامين وخمس سنوات مع حكومة المأمون.
وقد تجاهر الامام الرضّا بامامته بعد استشهاد والده الامام الكاظم واظهر دعوته وأعلن من دون خشية انّه قائد للامّة. وقد كان جوّ المجتمع السّياسيّ في زمان هارون يتميّز بالاضظهاد والضّغط بحيث خاف على مصير الامام اقربُ اصحابه من هذه الصّراحة والجرأة.
يقول «صفوان بن يحيى»:
لقد تحدّث الامام الرضّا (ع) بعد استشهاد والده بحديث خفنا منه على روحه فقلنا له: انّك اظهرت امراً كبيراً ونحن خائفون عليك من هذا الطّاغوت (هارون).
قال (ع): «مهما اراد فليحاول، فانّه لا سبيل له عليّ»
يقول «محمّد بن سنان»: قلت للامام الرّضا (ع) في عصر هارون :
انّك شهرت نفسك بهذا الامر (الامامة) وجلست في مكان ابيك ، بينما سيف هارون يقطر دماً !
فقال: انّ الّذي جرّاني على هذا الفعل هو قول الرّسول (ص):
«لو استطاع أبو جهل ان ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا بأننّي لستُ نبيّاً»، وانا اقول: «لو استطاع هارون ان ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا بأننّي لستُ اماماً»
وقد تحقّق ما تنبّأ به الامام فهارون لم تسنح له الفرصة لتهديد حياة الامام بالخطر، وبسبب حدوث اضطرابات في شرق ايران فقد اضطرّ هارون ليقود جيوشه نحو خراسان وقد ألم به المرض في اثناء الطريق ومات في طوس عام 193 هجريّة، وبذلك فقد تخلّص الاسلام والمسلمون من هذا الرّجل المنحطّ وأمنوا من فتكه.
الإمامُ(ع) في عَصْر الأمِيْن:
وبعد موت هارون حدث صراع شديد على الخلافة بين الامين والمأمون، فقد عيّن هارون الامين خليفة من بعده، وانتزع منه عهداً على ان يكون المأمون خليفة بعده، واشترط عليه ان يُسند للمأمون حكومة ولاية خراسان في زمان خلافة الامين، اِلاّ انّ الامين بعد موت هارون وفي عام 194 هجريّة عزل المأمون عن ولاية عهده ورشّح لها ابنه موسى
وبعد صراعات دمويّة حدثت بين الامين والمأمون، فقد قُتل الامين عام 198 هجريّة وتسلّم المأمون بعده مقاليد الخلافة.
واستغلّ الامام الرّضا (ع) هذه الاوضاع طيلة فترة الصّراع القائم في بلاط الخلافة وانشغالهم فيما بينهم، وبراحة بال واطمئنان خاطر انصراف الى ارشاد ابتاعه وتعليمهم وتربيتهم.
الإمامُ(ع) في عَصْر المَأْمون
يعتبر المأمون بين خلفاء بني العبّاس اعلمهم واكثرهم مكراً وخداعاً ، فقد كان متعلّماً ومطّلعاً على الفقه وبعض العلوم الاخرى، كما انّه قد شارك في بعض جلسات البحث والمناظرة مع بعض العلماء، ومن الواضح ان احاطته بعلوم عصره كانت وسيلة لتنفيذ سياساته اللاّانسانيّة، واِلاّ فانّه لم يكن مقيّداً بالدّين الاسلاميّ الحنيف ولم يقلّ عن سائر الخلفاء في مجال اللّهو والفسق والفجور وسائر الافعال الشّنيعة، غاية الامر انّه كان اشدّ احتياطاً في سلوكه من سائر الخلفاء، ويتوسّل بختلف الحيل والرّياء لخداع عامّة النّاس، ولكي تستحكم أسس سطلته فانّه كان يجالس الفقهاء في بعض الاحيان ويحاورهم في المسائل والبحوث الدينيّة.
ومجالسة المأمون وصداقته الحميمة مع « القاضي يحيى بن أكثم » ( وهو رجل ساقط منحطّ فاجر) تعتبر افضل شاهد على فسق المأمون وانحطاطه وعدم تقيّده بالدّين. فيحيى بن أكثم كان مشهوراً في المجتمع بأفظع الاعمال الّتي يستحي القلم من بيانها، ومثل هذا الشّخص يقرّ به المأمون اليه بحيث يصبح «رفيق المسجد والحمّام والبستان»، والاعظم من هذا انّه قد عيّنه «قاضيا للقضاة» للامّة الاسلاميّة ويشاوره الرأي في شؤون الدّولة المهمّة
وعلى أيّة حال ففي عصر المأمون كان يتم ترويج العلم والمعرفة بحسب الظاهر، وكان العلماء يُدعون الى مركز الخلافة، ويبذل المأمون الهبات والمشجّعات للباحثين وذلك لاعداد الارضيّة لا نجذابهم نحوه، وكان يعقد مجالس الدّرس والمباحثة والمناظرة، وبذلك راجت سوق الدّراسة العلميّة وارتفع نجمها.
وعلاوة على هذا فقد حاول المأمون جذبَ الشّعية واتباع الامام اليه من خلال القيام ببعض الاعمال، فمثلاً كان يتحدّث عن انّ علياً (ع) اكثر أهليّة وأولى بان يصبح خليفة للنبيّ (ص) وقد جعل لعن معاوية وسبّه امراً رسميّاً، وأعاد للعلويّين ما غُصب من حقّ فاطمة الزّهراء (ع) في «فدك» واظهر تعاطفاً مع العلويّين وحبّاً لهم
واساساً فانّ المأمون من خلال التفاته الى سلوك هارون وجرائمه والاثار السيّئة الّتي تركتها في نفوس النّاس كان يحاول القضاء على ارضيّة الثّورة والتّمرّد، ويبذل قصارى جهده لارضاء النّاس حتّى يستطيع بسهولة الاستقرار على مركب الخلافه، ومن هنا لابدّ من القول انّ الوضع العامّ في ذلك الزّمان كان يستوجب ان يهتمّ برفع النقائض وما يؤذي النّاس، وان يظهر بانّه في صدد اصلاح الامور وهو يختلف عن الخلفاء الاخرين...
ولاية عهد الامام الرّضا (ع)
انّ المأمون بعد ما تخلّص من اخيه الامين واستقر على كرسيّ الحكم كان يواجه ظروفاً حسّاسة، لان مكانته في بغداد (الّتي هي مركز السّلطة العبّاسيّة ولا سيّما بين اتباع العبّاسيّين الّذين يريدون الامين ولا يرون حكومة المأمون الّتي مركزها في «مَرْو» منسجمة مع مصالحهم) كانت متزلزلة جدّاً، ومن ناحية اخراى فانّ ثورة العلويّين كانت تشكّل تهديداً جدّياً لحكومة المأمون، وذلك لانّه في عام 199 هجريّة نهض «محمّد بن ابراهيم طباطبا» وهو من العلويّين المحبوبين والعظام، وأعانه في نهضته «ابو السّرايا»، وحدثت نهضات اخرى في العراق والحجاز قامت بها مجموعات اخرى من العلويّين، واستغلّ هؤلاء الضّعف الحاصل في بني العبّاس نتيجة للصراع بين المأمون والامين وما ترتّب على ذلك من تبعثر النظام، فتسلطوا على بعض المدن، والمنطقة الواقعة بين الكوفة واليمن كانت كلّها تقريباً تعيش حاله الاضطراب والتّمردّ، ولم يستطيع المأمون التغلّب على هذه الاضطرابات اِلاّ بعد جهد عسير...
وكان من المحتمل ايضاً ان ينهض الايرانيّون بسماعدة العلويّين وذلك لانّ الايرانيّين كانوا يعتقدون بالحقّ الشّرعي لاهل بيت أمير المؤمنين علي (ع)، وفي بداية نشاط بني العبّاس استغلّ الدعاة العباسيّون حبّ الايرانيّين هذا لاهل بيت النّبيّ وأمير المؤمنين لا سقطا الحكم الامويّ.
والمأمون رجل ذكيّ ومكّار، ولهذا فكّر في اسناد الخلافة أو ولاية العهد الى شخص كالامام الرّضا (ع) حتى يساعدة على تثبيت اسس حكومته المتزلزلة، فقد كان يأمل من وراء هذه المبادرة ان يستطيع التصدّي لنهضة العلويّين ويوفّر لهم ما يرضي طموحاتهم، وبذلك فهو يُعدّ الايرانييّن لقبول خلافته.
ومن الواضح انّ اسناد الخلافة أو ولاية العهد للامام كان تكتيكاً سياسيّاً مدروساً، واِلاّ فانّ من يقتل اخاه من اجل التسلّط ويعيش حالة الفسق والفجور في حياته الخاصّة لا يمكن ان يتحوّل فجأة الى متديّن زاهد بحيث يتنازل حتّى عن الخلافة والسّلطان، وافضل شاهد على كون المأمون مكّاراً وخدّاعاً هو عدم قبول الامام ذلك العرض منه. ولو كان المأمون صادقاً في قوله وعمله لما رفض الامام اطلاقاً استلام زمام الخلافة، وذلك لانّه لا يوجند من هو أنسب من الامام لها.
وهناك شواهد تاريخيّة اخرى تكشف بوضوح سوء نيّة المأمون ، ونشير هنا الى بعض الموارد بعنوان انّها نموذج فحسب:
* عيّن المأمون بعض الجواسيس على الامام حتّى يراقبوا جميع الامور وينقلوها اليه بواسطة التّقارير، وهذا بنفسه دليل على عداوة المأمون للامام وعدم ايمانه به وعدم حسن نيّته معه ونلاحظ في الرّوايات الاسلاميّة هذا النّص:
«كان هشام بن ابراهيم الرّاشي من اقرب الناس عند الامام الرّضا (ع) بحيث انّه يسيّر امور الامام، لكنّه لمّا جيء بالامام الى مرو اتّصل هشام بـ«الفضل بن سهل ذي الرّياستين» (وزير المأمون) وبالمأمون نفسه، وتوطّدت العلاقات بينهما الى الحدّ الذيّ لم يُخفِ عنه شيئاً، فعيّنه المأمون حاجباً للامام (وهو الذي يتولّى تنظيم الدّخول عليه واللقاء به)، ولم يكن هشام يسمح لاحد بالدّخول على الامام اِلاّ لمن يرغب، وكان يشتدّد مع الامام ويضيّق عليه. حتّى انّ اصحاب الامام واتباعه المخلصين ما كانوا قادرين على لقائه، وكلّ ما يتحدّث به الامام في بيته كان هشام ينقله الى المأمون والفضل بن سهل... »
* يقول «ابو الصّلت» في مجال عداوة المأمون للامام:
كان الامام (ع) «يناظر العلماء ويتغلّب عليهم، فيقول النّاس: والله انّه أولى بالخلافة من المأمون، فيتلقف الجواسيس هذا الامر وينقلونه الى المأمون...»
* ونلاحظ ايضا انّ «جعفر بن محمّد بن الاشعث» كان يرسل الى الامام بعض الرّسائل ايّام كان الامام في خراسان وعند المأمون، ويوصي الامام ان يحرقها بعد الاطّلاع عليها حتّى لا تقع بيد الاخرين، والامام يطمئنه ويقول: اننّي احرق رسائله بعد قراءتها
* ونلاحظ أيضاً انّ الامام (ع) في تلك الايام التي كان فيها عند المأمون ويعدّ في الظاهر وليّاً للعهد يكتب في جواب «احمد بن محمّد البَزَنطي»:
... وامّا انّك طلبت الاذن في لقائي فانّ مجيئك اليّ صعب عسير، فهم يتشددون معي كثيراً، وهذا الامر ليس ميسوراً لي حاليّاً، وسوف يسهل اللقاء ان شاء الله قريباً.
* والاوضح من الجميع انّ المأمون نفسه كان في بعض الاحيان يعترف لبعض المقرّبين اليه والمرتبطين به بأهدافه الواقعيّة لمواقفه مع الامام ويكشف بصراحة نيّاته الخبيثة:
يقول المأمون في جوابه بـ«حميد بن مهران» (وهو أحد افراد بلاطه ) وجماعة من العبّاسيّين الذّين جاءوا اليه معترضين عليه موضوع اسناد ولاية العهد للامام الرّضا:
«... انّ هذا الرجل كان مخفيّاً وبعيداً عنّا، وكان يدعو لنفسه، ونحن اردنا نجعله وليّ عهدنا حتّى تصبح دعوته لنا، ويعترف بسلطاننا وخلافتنا، وحتّى يدرك المعجبون به انّ ما يدّعيه لنفسه ليس فيه، وانّ هذا الامر (وهو الخلافة) مختصّ بنا وليس له فيه نصيب.
وكنّا خائفين انّنا اذا تركناه وحاله ان يحدث اضطراباً في البلاد بحيث لا نستطيع الوقوف في وجهه، فيوجد وضعاً نعجز عن مقابلته... »
وبناءً على هذا المأمون لم يكن ذانيّة حسنة في اسناد الخلافة او ولاية العهد للامام، وانما كان يهدف الى اشياء أخرى من وراء هذه اللّعبة السّياسيّة، فهو من ناحية كان يقصد ان يجعل الامام بلونه ويلوّث تقواه وقدسيّته، ومن ناحية أخرى لوانّ الامام وافق عليايّ واحد من اقتراحية (الخلافة وولاية العهد) كما اراد المأمون فانّ الامر كان ينتهي لصالح المأمون، وذلك لانّه لو قبل الامام الخلافة فيسصبح المأمون وليّ عهده (كما اشترط هو ذلك) وبهذا يؤمّن للسطته الشرعية والقانونيّة، ثمّ يتآمر في الخفاء ويقضي على الامام، ولو قبل الامام ولاية العهد فانّه اعتراف بسلطة المأمون وابقاء لها على ما هي عليه...
وقد اختار الامام حّلاً ثالثاً: فمع انّه قبل ولاية العهد بالضغط والاجبار لكنّه تصرّف بأسلوبه الخاصَّ بحيث حرم المأمون من تحقيق اهدافه من التّقرّب للامام واكتساب الشرعيّة، وفضح للمجتمع انّ هذه الحكومة طاغوت ولسيت حكومة اسلاميّة...
من المدينة الى مَرْو
عزم المأمون على ان يأتي بالامام الرّضا الى مَرْو لتحقيق اهدافه السّياسيّة وارضاء العلويّين الّذين كان بينهم دائماً رجال شجعان وعلماء وزهّاد، ولتملّق عواطف اعضاء المجتمع ولا سيّما المجتمع الايرانيّ الذي كان يعشق اهل البيت، واظهر المأمون انّه محبّ للعلويّين الذي كان يعشق اهل البيت، واظهر المأمون انّه محبّ للعلويّين عموماً وللامام بصورة خاصّة، وقد تصرّف المأمون بمهارة فائقة بحيث انطلى الامر حتّى على بعض الافراد من الشيعة الّذين يتمتّعون بقلوب طاهرة سليمة، ولهذا فانّ الامام الرّضا نبّه بعض اصحابه ممّن يتحمل ان يتأثّر بتظاهر المأمون وريائه بقوله:
«لا تغتّروا بقوله، فما يقتلني والله غيره، ولكنّه لابدّ لي من الصّبر حتّى يبلغ الكتاب اجله»
لقد أمر المأمون (فيما يتعلّق بتنصيب الامام وليّاً للعهد) عام 200 هجريّة بحمل الامام الرّضا (ع) من المدينة الى مرَوْ[1]
يقول رجاء بن أبي الضّحّاك، وهو المبعوث الخاصّ للمأمون:
بعثني المأمون في اشخاص علي بن موسى الرّضا (ع) من المدينة وأمرني امن أخذ به على طريق البصرة والاهواز وفارس، ولا أخذ به على طريق قم، وأمرني ان احفظه بنفسي باللّيل والنّهار حتى اقدم به عليه فكنت معه من المدينة الى مَرْو، فوالله ما رأيت رجلاً كان أتفى للهِ منه ولا اكثر ذكراً له في جميع اوقاته منه، ولا اشدّ خوفاً لله عزّ وجلّ.
ويقول ايضاً: عندما سرنا من المدينة الى مَرْو لم نمرّ بمدينة إلاّ خفّ اهلها اليه واستفتوه عن شؤونهم الدينيّة، وكان (ع) يجيبهم بأجوبة شافية كافية، ويحدّثهم بكثرة مستنداً الى آبائه الكرام ومنتهياً الى النبيّ (ص).
يقول «أبو هاشم الجعفريّ»:
لمّا بعث المأمون رجاء بن أبي الضّحّاك لحمل ابي الحسن علي بن موسى الرّضا (ع) على طريق الاهواز، لم يمرّ على طريق الكوفة ، فبقي به اهلها وكنت بالشرقي من ابيدج (موضع) فلمّا سمعت به سرت اليه بالاهواز وانتسب له وكان أول لقائى له، وكان مريضاً، وكان زمن القيظ فقال: ابغني طبيباً. فأتيته بطبيب فنعت له بقلة فقال الطيب: لا اعرف احداً على وجه الارض يعرف اسمها غيرك، فمن اين عرفتها اِلاّ انّها ليست في هذا الاوان ولا هذا لزّمان، قال له: فابغ لي قصب السّكّر، فقال الطبيب وهذه أدهى من الاولى ما هذا بزمان قصب السّكّر، فقال الرّضا (ع): هما في أرضكم هذه وزمانكم هذا، وهذا معك فامضيا الى شاذروان الماء واعبراه فيرفع لكم جوخان (أي بيدر) فاقصداه فستجدان رجلاً هناك اسود في جوخانه فقولا له أين منبت قصب السّكّر واين منابت الحشيشة الفلانيّة (ذهب على ابي هاشم اسمُها) فقال يا ابا هاشم دونك القوم فقمت واذا الجوخان والرجل الاسود قال: فسألناه فأومأ الى ظهره فاذا قصب السّكّر فأخذنا منه حاجتنا ورجعنا اليالجوخان فلم نصرحابه فيه، فرجعنا الى الرّضا (ع) فحمد الله.
فقال لي المتطّبب: ابن من هذا؟ قلت: ابن سيّد الانبياء. قال: فعنده من اقاليد النّبوة شيء؟ قلت: نعم، وقد شهدت بعضها وليس بنبيّ. قال:وصيّ نبيّ؟ قلت: امّا هذا فنعم؟ فلبغ ذلك رجاء بن أبي الضّحّاك فلقال لاصحابه لئن اقام بعد هذا ليمدّن اليه الرّقاب فارتحل به
الامام(ع) في نيشابور
جاء الامام الرّضا (ع) الى نيشابور ونزل في دار جديّ «پسنده» الواقعة في المحلّة الغربية في النّاحية المعروفة بـ«لاشاباد»، وقد سمّي جديّ بهذا الاسم لانّ الامام احبّه ونزل في بيته.
وقد زرع الامام بيده المباركة شجرة لوز في زاوية من بيتنا، ومن بركات الامام انّها اصبحت شجرة واثمرت خلال فترة عام واحد، واخذ النّاس يطلبون الشّفاء بواسطة لوز هذه الشّجرة، وكلّ مريض تناول منه شيئاً بقصد الشّفاء فانّه تحسنّت صحّته.
يقول «أبو الصّلت الهروي» وهو من أصحاب الامام المقرّبين:
كنتُ برفقة الامام علي بن موسى الرّضا عندما اراد الخروج من نيشابور وكان راكباً على بغلة رماديّة اللّون وقد اجتمع حوله مجموعة من العلماء منهم «محمّد بن رافع و«احمد بن الحرث» و« يحيى بن يحيى» و«اسحاق بن راهويه» وقد امسكوا بعنان بغلة الامام وهم يقولون: نقسم عليك بحقّ آبائك الطّاهرين اِلاّ ما حدّثتنا بحديث سمعته من والدك.
فأخرج الامام رأسه من المحمل وقال:
«حدثنا ابي، العبد الصّالح موسى بن جعفر قال حدّثني ابي الصّادق جعفر بن محمّد، قال حدّثني ابي أبو جعفر بن عليّ باقر علوم الانبياء، قال حدّثني ابي عليّ بن الحسين سيّد العابدين، قال حدّثني ابي سيّد شباب اهل الجنّة الحسين، قال حدّثني ابي عليّ بن أبي طالب:، قال سمعت النبي (ص) يقول سمعت جبرئيل يقول قال الله جلّ جلاله: انّي انا الله لا اله اِلا انا فاعبدوني، من جاء منكم بشهادة ان لا اله اِلا الله بالاخلاص دخل في حصني ومن دخل في حصني أمن من عذابي»
اقتراح المأمون
ارسل المأمون رسالة الى الامام بعد دخوله الى مرو يعلمه فيها انّه يريد التّخلّي عن الخلافة واسنادها الى الامام، ويطلب منه ابداء وجهة نظره.
فرفض الامام، فأعاد المأمون الكرّة وارسل رسالة اخرى يقول له فيها لمّا كنت قد رفضت اقتراحي الاوّل فلابدّ لك من قبول ولاية عهدي. وتوقّف الامام تماماً من قبول هذا الاقتراح أيضاً، فأحضر المأمونُ الامامَ عنده وخلي به في مجلس خاصّ وكان «الفضل بن سهل ذوالرياستين» حاضراً في هذا الجتماع. قال المأمون: لقد استقرّ رأيي على ان اسند اليك الخلافة وشؤون المسلمين. فلم يقبل الامام، وعندئذ كرّر المأمون اقتراحة بولاية العهد فلم يوافق عليه الامام ايضاً.
قال المأمون: لقد عيّن «عمر بن الخطاب» للخلافة من بعده شورى تضمّ ستّة اعضاء وكان جدّك علي بن أبي طالب واحداً منهم ، وقد أمر عمر بأن تُضرب عنق كلّ من يخالف منهم، فلا مفرّ لك من قبول ما اردته منك، لانّني لا اجد سبيلاً آخر ولا علاجاً آخر .
وبهذه الطّريقة فقد لوّح المأمون للامام بالموت، فاضطرّ الامام لقبول ولاية العهد بالاكراه والاجبار قائلاً:
«انّني اقبل ولاية العهد بشرط ان لا اكون آمراً ولا ناهيا ولا مفتيا ولا قاضيا وان لا اعزل ولا انصب احداً وا ن لا اغيّر شيئا ولا ابدّله».
ووافق المأمون على كل هذه الشّروط
وهكذا فُرضت ولاية العهد على الامام، والغرض من وراء هذه المؤامرة هو ان يجعل الامام تحت المراقبة حتّى يتعذّر عليه دعوة النّاس الى نفسه، والهدف الاخر هو تهدئة العلويّين والشّيعة حتّى تستقرّ أسس حكومته.
يقول «ريّان بن الصّلت»:
ذهبت الى الامام الرّضا (ع) وقلت له يا ابن رسول الله (ص) يقول البعض انّك قبلت ولاية عهد المأمون مع انّك تظهر الزّهد في الدّنيا وتدّعي عدم الرّغبة فيها !
قال: «يشهد الله انّ هذا الامر لم يسعدني، لكنّني وجدت نفسي بين قبول ولاية العهد والقتل فاضطررت للقبول... ألا تعرف انّ « يوسف » كان نبيّ الله ولمّا اضطرّ قَبلِ ان يكون اميناً على خزائن عزيز مصر، وها هنا ايضاً اقتضت الضّرورة ان اقبل انا ولاية العهد بالاكراه والاجبار، وعلاوة على هذا فانا لم ادخل في هذا الامر اِلاّ كمن هو خارج عنه (بمعنى انني بسبب تلك الشّروط التي اشترطتها اكون كمن لم يتدخل في الحكومة)، اشكوامرى اِلى الله تعالى واطلب منه العون»
يقول «محمّد بن عرفة»: قلت للامام (ع): يا ابن رسول الله ! لماذا قبلت ولاية العهد؟ قال: «لنفس السّبب الذي دعا جدّي عليّا (ع) للاشتراك في تلك الشّورى»
يقول «ياسر الخادم»: لقيت الامام (ع) بعد قبوله لولاية لاعهد وهو رافع يديه نحو السّماء قائلاً:
«الهي انّك تعلم انّني قبلت بالاكراه والاجبار، فلا تؤاخذني كما لم تؤاخذ عبدك ونبيّك يوسف عندما قبل ولاية مصر»
وفي مرّة قال الامام لاحد خواصّه عندما لا حظ عليه السّرور بسبب قبول الامام ولاية العهد:
«لا تفرح انّ هذا الامر لن يتمّ وسوف لن يبقى على هذا الوضع »
الموقف السّلبيّ للامام(ع)
قبل المأمون شروطه الاّ انّه في بعض الاحيان كان يحاول فرض بعض الامور على الامام ليجعله وسيلة لتحقيق مآربه، لكنّ الامام كان يقاومه بصلابة ولا يتعاون معه اطلاقاً.
يقول «معمر بن خلاد»: نقل لي الامام الرّضا (ع) انّ المأمون قال لي سمِّ لي بعض الافرد الّذين تعتمد عليهم حتّى اسند اليهم ولاية المدن الثّائرة عليّ. فقلت له: «اذا وفيت بالشّروط التي قبلتها فسوف افي انا بعهدي، فأنا قبلت هذا الامر بشرط ان لا اكون آمراً ولا ناهياً وان لا اعزل ولا انصب وان لا اكون مستشاراً حتّى يتوفاني الله قبلك ، والله ما كنت افكّر في الخلافة، وعند ما كنت في المدينة كنت اركب على مطيّتي واستخدمها في الذهاب والاياب، وكان أهل المدينة يعرضون عليّ حوائجهم فأقضيها لهم، وكنت معهم كالاعمال (اي انّنا كالاقارب يحب بعضنا بعضاً ويأنس اليه) وكانت رسائلي مقبولة ومحترمة في سائر البلاد، وانت لم تزد على النعمة التي انعم الله بها عليّ، وكل نعمة تريد اضافتها فهي ايضاً من الله تُمنح لي»، فقال المأمون انّي وفيّ للعهد الّذي عاهدتك به
حفلة ولاية العهد
بعد ان قبل الامام (ع) منصب وليّ العهد بالشّكل المذكور سلفاً اقام المأمون حفلاً بهذه المناسبة لاعلام النّاس والاستفادة من ذلك سياسيّاً والتّظاهر بانّه فَرِح جدّاً ومسرور، فعقد اجتماعاً في يوم الخميس مع حاشيته واعضاء بلاطه، ثمّ خرج «الفضل بن سهل» واعلن للناس رأي المأمون بالنّسبة للامام الرّضا وولاية عهده، وابلغهم بأمر المأمون بان يلبسوا الملابس الخضر (وهي الملابس المتعارفة للعلويّين) ويحضروا في يوم الخميس القادم لمبايعة الامام...
وفي اليوم المحدّد حضر الناس بمختلف طبقاتهم اعمّ من اعضاء البلاط وقادة الجيش والقضاة وغيرهم وهم يرتدون الملابس الخضراء، وقد جلس المأمون، واعدّوا للامام منصّة خاصّة كان يجلس عليها وهو مرتد للملابس الخضراء وعلى رأسه عمامة ويحمل معه سيفا، فأمر المأمون ابنه «العباس بن المأمون» ان يكون أوّل رجل يبايع الامام ففعل، ورفع الامام يده بحيث كان وجه كفّه نحو وجهه وباطن كفّه نحو المبايع.
فقال المأمون: مدّ يدك للبيعة، قال الامام: هكذا كان يبايع رسول الله (ص).
وعندئذ بايع النّاس الامام، بينما يده كانت فوق الايدي، وقد قُسّمت في هذا الحفل أكياس من الاموال، وتحدّث الخطباء وانشد الشّعراء ما طاب لهم في مجال ذكر فضائل الامام وفي مورد العمل الذي انجزه المأمون...
ثمّ قال المأمون للامام: انت ايضاً تحدّث واخطب النّاس.
فقام الامام وحمد الله واثنى عليه ثم خاطب الحاضرين: «انّ لنا حقّاً عليكم من ناحية النبيّ (ص) وانتم ايضا لكم حقّ علينا من اجل النبيّ ،والان بعد ان أديّتم لنا حقّنا فعلينا ايضاً ان نحترم حقّكم »، ولم يضف شيئاً آخر في ذلك المجلس.
وأمر المأمون بسك الدّراهم وضربها باسم «الرّضا»
استشهاد الامام الرضا(ع)
واخيراً فقد عزم المأمون على قتل الامام، وذلك بعد ان تيقّن انّه لا يستطيع اطلاقاً يطوّعه لاغراضه، وقد لاحظ انّ عظمة الامام في تزايد وانّ التفات المجتمع اليها يتّسع يوماً بعد آخر، وكلّما حاول المأمون توجيه ضربة الى شخصيّة المام الاجتماعيّة فان شخصيّته واحترامه يتضاعف باستمرار، وادرك المأمون انّه كلّما مرّ الزّمن فانّ أحقّيّة الامام تظهر اكثر وتزوير المأمون ينفضح اكثر، ومن ناحية اخرى فانّ العبّاسيّين وأتباعهم لم يكونوا راضين باسناد ولاية العهد للامام، وحتّى انهم اقدموا على مبايعة « ابراهيم بن المهدي العبّاسي » في بغداد بعنوان المعارضة مهدّدة بالاخطار من جهات مختلفة، ولهذا فقد اتُخذ قراراً بالتخلّص من الامام ودسّ اليه السمّ حتّى يستريج من الامام من ناحية ويجذب اليه بني العبّاس واتباعهم من ناحية اخرى، وبعد استشهاد الامام كتب الى بني العبّاس:
كنتم تنتقد ونني عليا اسنادي ولاية العهد لعليّ بن موسى الرّضا، فاعلموا انّه قدمات، اذن عليكم ان ترضحوا للطّاعة لي
وبذل المأمون قصارى جهده لكي لا يطلّع اتباع الامام الرّضا ومحبّوه على استشهاد الامام (ع)، وحاول اخفاء جريمته النّكراء بالتّظاهر وخداع العامّة، واراد ان يوهم النّاس ان الامام قد تُوفّي بصورة طبيعيّة، اِلاّ ان الحقيقة قد تجلّت وعرف اصحاب الامام والمتعلّقون به واقع ما حدث.
«عن أحمد بن علي الانصاري قال: سألت ابا الصّلت الهروي فقلت له كيف طابت نفس المأمون بقتل الرّضا (ع) مع اكرامه ومحبّته له وما جعل له من ولاية العهد بعده؟ فقال: ان المأمون انما كان يكرمه ويحبّه لمعرفته بفضله وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس انّه راغب في الدّنيا فيسقط محلّه من نفوسهم، فلمّا لم يظهر منه في ذلك النّاس الاّ ما ازداد به فضلاً عندهم ومحّلاً في نفوسهم جلب عليه المتكلّمين من البلدان طمعاً في ان يقطعه واحد منهم فيسقط محلّه عند العلماء. وبسببهم يشتهر نقصه عند العامّة، فكان لا يكلّمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصّابئين والبراهمة والملحدين والدّهريّة ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلاّ قطعه والزمه الحجّة وكان النّاس يقولون: والله انّه اولى بالخلافة من المأمون، وكان أصحاب الاخبار يرفعون ذلك اليه فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده له، وكان الرّضا (ع) لا يحابي المأمون من حقّ وكان يجيبه بما يكره في اكثر احواله فيغيطه ذلك ويحقده عليه ولا يظهره له فلما اعيته الحيلة في امره اغتاله فقتله بالسّمّ»
ويقول ايضاً أبو الصّلت ـ وقد كان مرافقاً للامام ومساهماً في دفنه: قفي طرق العودة من مرْو الى بغداد دسّ المأمون السّمّ للامام بواسطة العنب في طوس بحيث ادّى الى قتله
وتمّ دفن الجسد الطّاهر للامام في نفس تلك البقعة الّتي كان هارون مدفوناً فيها، وبالضّبط أمام قبر هارون.
وقد حدثت فاجعة استشهاد الامام الرّضا (عليه السلام) في آخر يوم من ايام شهر صفر عام 203 هجريّة، وقد كان عمره الشّريف انذاك يناهز الخامسة والخمسين عاماً... صلوات الله والانبياء والملائكة والاولياء على روحه المقدّسة.
|