وِلادَةُ الإِمَامِ الجَواد(ع)
ولد(ع) سنة 195 للهجرة ويقال ولد بالمدينة في شهر رمضان ، وقيل في رجب من ذات السنة، وقبض ببغداد في آخر ذي الحجة سنة عشرين ومائتين وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة وأمه أم ولد يقال لها خيزران وقيل ريحانة وقيل سبيكة ، وكانت من أهل مارية القبطية ، وقبره ببغداد في مقابر قريش في ظهر جده موسى (ع).
وقد أكدت الرّوايات الواردة عن النبيّ (ص) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) بأنّ الإمام التّاسع سيكون ابن الإمام الثّامن، ولهذا كانوا ينتظرون بفارغ الصّبر ان يمّن الله تعالى على الإمام الرّضا بولد، حتّى انّهم في بعض الاحيان كانوا يذهبون الى الإمام ويطلبون منه ان يدعوا الله سبحانه بان يرزقه ولداً، والإمام (ع) يسلّيهم في الجواب ويقول لهم: « انّ الله سوف يرزقني ولداً يكون الوارث لي والإمام من بعدي » واخيراً ولد الإمام محمّد الجواد (ع)
وقد سُمّي بـ«محمّد»، وكنيته «أبو جعفر»، وأشهر ألقابه « التقيّ » و« الجواد».
وأشاعت ولادته الفرح والسّرور في المجتمع الشّيعيّ، وأدّت الى تقوية الايمان والاعتقاد، وذلك لانّ التّرديد الّذي كان من الممكن ان يطرأ على قلوب بعض الشّيعة بسبب تأخّر ولادة هذا الإمام الكريم قد زال تماماً.
أما والدته فهي سبيكة أو ريحانة أو خيزران، وتنحدر هذه السّيّدة الكريمة من أسرة «مارية القبطية»زوج رسول الله (ص) وتعدّ من أفضل نساء عصرها في الفضائل الأخلاقيّة ، وفي احدى الرّوايات انّ النبيّ (ص) قد سمّاها بـ«خيرة الاُماء» وقد بيّن الإمام موسى بن جعفر (ع) قبل ان تدخل هذه السيّدة الى بيت الإمام الرّضا (ع) بعدّة سنوات بعض خصائصها وميزاتها، وأرسل اليها سلاماً بواسطة احد أصحابه وهو «يزيد بن سليط»
يقول «ابو يحيى الصّنعاني»:
كنت عند الإمام الرّضا (ع) فجاءوا اليه بالإمام الجواد وكان طفلاً صغيراً، فقال:
«إن هذا المولود لم يولد للشّيعة مولود اكثر بركة منه»
ولعلّ قول الإمام هذا كان بسبب أنّ ولادة الإمام الجواد قد ازالت القلق من قلوب الشّيعية حيث كان يحزنهم ان لا يكون للإمام الرّضا (عليه السلام) خليفة، وانتشلت ايمانهم من ان يتلوّث بالشّك والتّرديد.
خِلافَةُ الإمامِ الجَوَاد(ع)
يقول (النّوفليّ): عندما سافر الإمام الرّضا (ع) الى خراسان قلت له: أتأمرني بشيء؟ قال: عليك ان تتبّع من بعدي ولدي «محمّداً»، فأنا ذاهب الى سفر لا اعود منه.
ويقول«محمّد بن أبي عباد» أيضاً: سمعت الإمام الرّضا (عليه السلام) يقول: أبو جعفر وصيّي من بعدي وخليفتي من أهل بيتي
يقول «معمر بن خلاد»: كان الإمام الرّضا (عليه السلام) قد ذكر موضوعاً فقال: ما الدّاعي لان تسمعوا مني هذا الموضوع؟ هذا أبو جعفر قد أجلسته في محلّي وجعلته في مكاني (فأيّ سؤال او مشكلة تواجهكم فهو يجيبكم عليها)، فنحن أهل بيت يرث فيه الأبناء ما لدى الآباء (من حقائق ومعارف وعلوم)
ينقل «الخيراني» عن ابيه أنّه قال: كنت عند الإمام الرضّا (ع) في خراسان فسأله شخص: لو حدث لك أمر فلمن نرجع؟ قال: ارجعوا لولدي أبي جعفر.
وكأنّ السائل لم يكن يرى عمر الإمام الجواد كافيا (وهو يفكّر كيف يمكن ان يتولّى الإمامة طفل صغير) فقال الإمام الرضا (ع): « لقد بعث الله تعالى عيسى بالنبوّة والرسالة بينما كان عمره أقلّ من العمر الحاليّ لابي جعفر »
يقول «عبد الله بن جعفر»: ذهبت مع «صفوان بن يحيى» الى الإمام الرضا (ع)، وكان الإمام الجواد حاضراً وعمره ثلاث سنين ، فسألنا الإمام: لو جرى لك حادث فمن هو خليفتك؟ فأشار الإمام الى أبي جعفر وقال: ولدي هذا. قلنا: وهو بهذا العمر؟ قال: اجل بهذا العمر وهذا السنّ، والله تعالى جعل عيسى (ع) حجّته بينما لم يصل حتّى الى ثلاث سنين.
لقد وصل الإمام الجواد الى مقام الإمامة وهو في سنّ الثّامنة أو التّاسعة.
يقول «معلّى بن محمّد»:
بعد استشهاد الإمام الرضّا (ع) رأيت الإمام الجواد فنظرت الى قدّه لأصف قامته لأصحابنا فقعد ثمّ قال يا معلّى انّ الله احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ به في النّبوّة فقال: «وآتيناه الحكم صبيّاً»
يقول محمّد بن الحسن بن عمّار:
كنت عند علي بن جعفر بن محمّد جالساً بالمدينة وكنت أقمت عنده سنتين اكتب عنه ما يسمع من اخيه (يعني ابا الحسن (ع) اذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن علي الرّضا المسجد (مسجد الرسول (ص) فوثب عليّ بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه، فقال له أبو جعفر (ع): يا عمّ اجلس رحمك الله فقال: يا سيّدي كيف اجلس وانت قائم، فلّما رجع عليّ بن جعفر الى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عمّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال اسكتوا اذا كان الله عزّ وجلّ (وقبض على لحيته) لم يؤهّل هذه الشّيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، أُنكر فضله ؟! نعوذ بالله ممّا تقولون، بل أنا له عبد.
مَعْرِفَةُ الإمام الجَوَاد(ع)
بعد استشهاد الإمام الرّضا (ع) سافر الى مكّة لاداء مراسم الحجّ ثمانون شخصاً من علماء وفقهاء بغداد والمدن الاخرى، وفي أثناء الطّريق عرّجوا على المدينة للقاء الإمام الجواد (ع) أيضاً، فنزلوا في بيت الإمام الصّادق حيث كان خاليا آنذاك، وكان الإمام (ع) طفلاً فدخل الى مجلسهم وعرّفه للحاضرين شخص يسمّى «موفق» فنهضوا جميعاً احتراما له وسلّموا عليه. وعندئذ طرحوا أسئلتهم وكان الإمام يجيب عليها بشكل رائع ففرح الجميع (حيث شاهدوا فيه سيماء الإمامة واطمأنّوا بإمامته اكثر) وأثنوا عليه ودعوا له...
يقول أحد هؤلاء وهو اسحاق بن اسماعيل:
في السّنة التي خرجت الجماعة الى أبي جعفر (ع) أعددت له في رقعة عشرة مسائل لأسأله عنها وكان لي حمل فقلت: اذا أجابني عن مسائلي سألته ان يدعو الله لي ان يجعله ذكراً، فلّما سألته النّاس قمت والرّقعة معي لاسأله عن مسائلي فلّما نظر اليّ قال لي: يا ابا يعقوب سمّه احمد، فولد لي ذكر فسمّيته احمد، فقلت: شكراً لله، لا شكّ انّ هذا هو حجّة الله.
وقال عمران بن محمّد الاشعرّي: دخلت على الإمام الجواد (ع) وقضيت حوائجي وقلت له: انّ ام الحسن تقرئك السّلام وتسألك ثوباً من ثيابك تجعله كفناً لها، قال: قد استغنت عن ذلك. فخرجت ولست ادري ما معنى ذلك، فأتاني الخبر بأنها قد ماتت قبل ذلك بثلاثة عشر يوماً أو أربعة عشر يوماً.
وعن محمّد بن سهل القمّي انّه قال: كنت مجاوراً بمكّة فصرت الى المدينة فدخلت على الإمام الجواد (ع) وأردت أن أسأله عن كسوة يكسونيها فلم يتّفق أن أسأله حتى ودّعته وأردت الخروج فقلت اكتب اليه وأسأل. قال: فكتبت اليه الكتاب فصرت الى المسجد على أن اصلّي ركعتين واستخير الله مائة مرّة، فان وقع في قلبي ان ابعث اليه بالكتاب بعثت، وإلاّ خرقته، ففعلت فوقع في قلبي ان لا ابعث فخرقت الكتاب، وخرجت من المدينة، فبينما أنا كذلك اذ رأيت رسولاً ومعه ثياب في منديل يتخلّل القطار ويسأل عن محمّد بن سهل القمي حتّى انتهى اليّ، فقال: مولاك بعث اليك بهذا واذا ملاءتان.
وعن اميّة بن عليّ قال : كنت بالمدينة وكنت اختلف الى الإمام الجواد (عليه السلام)، والإمام الرّضا بخراسان، وكان أهل بيته وعمومة من ابيه يأتونه ويسلّمون عليه، فدعا يوماً الجارية فقال: قولي لهم يتهيّؤون للمأتم، فلّما تفرّقوا قالوا : ألا سألناه مأتم من؟ فلّما كان من الغد فعل مثل ذلك، قالوا: مأتم من ؟ قال: مأتم خير من على ظهرها، فأتانا خبر الإمام الرّضا (ع) بعد ذلك بأيّام فاذا هو قد مات في ذلك اليوم.
روي عن علي بن جرير انّه قال: كنت عند الإمام الجواد (ع) جالساً وقد ذهبت شاة لمولاة له فأخذوا بعض الجيران يجرّونهم اليه ويقولون: انتم سرقتم الشّاة، فقال الإمام (ع): ويلكم خلّوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم، الشاة في دار فلان فاذهبوا فأخرجوها من داره، فخرجوا فوجدوها في داره، وأخذوا الرّجل وضربوه وخرقوا ثيابه، وهو يحلف انّه لم يسرق هذه الشّاة، الى ان صاروا إلى الإمام الجواد (ع) فقال: ويحكم ظلمتم الرّجل فانّ الشّاة دخلت داره وهو لا يعلم بها، فدعاه فوهب له شيئاً بدل ما خرق من ثيابه وضربه.
كَرَامَةٌ له(ع) عند قُدُوْمه إلى بَغْدَاد
استقدم المأمون الإمام الجواد (ع) الى بغداد وزوّجه ابنته، اِلاّ انّ الإمام لم يبق في بغداد بل عاد مع زوجته الى المدينة.
وعند العودة شيّع جماعة من النّاس الإمام الى خارج بغداد للوداع والتّجليل، فوصلوا الى مسجد قديم عند حلول وقت صلاة المغرب فدخل الإمام الى ذلك المسجد ليقيم صلاة المغرب، وكانت في ساحة المسجد سدرة يابسة ليس عليها ورق، فدعا الإمام بماء وتهيّأ تحت السّدرة فعاشت السّدرة وأورقت وحملت من عامها.
ونقل عن الشّيخ المفيد انّه بعد سنين عديدة شاهد بنفسه هذه الشّجرة وأكل من ثمرها.
مِنْ كَرامات الإمام الجواد(ع)
وعن علي ابن خالد قال: كنت بالعسكر (سامّراء) فبلغني ان هناك رجلاً محبوساً أتي به من ناحية الشّام مكبولاً وقالوا: انّه تنبّأ، قال: فأتيت الباب وداريت البوّابين حتّى وصلت اليه فاذا رجل له فهم وعقل فقلت له: ما قصّتك؟ فقال : انّي كنت بالشّام اعبد الله في الموضع الّذي يقال انه نصب فيه رأس الحسين (ع) فبينا انا ذات ليلة في موضعي مقبل على المحراب اذكر الله تعالى اذ رأيت شخصاً بين يدي فنظرت اليه فقال : قم، فقمت فمشى بي قليلاً فاذا أنا في مسجد الكوفة، فقال لي: أتعرف هذا المقام؟ قلت: نعم هذا مسجد الكوفة، قال فصلّى وصلّيت معه، ثمّ انصرف فانصرفت فمشى بي قليلاً فاذا نحن في مسجد الرّسول (ص) فسلم على الرّسول وصلّى وصلّيت معه، ثمّ خرج وخرجت معه فمشى قليلاً فاذا أنا بمكّة فطاف بالبيت وطفت معه، ثمّ خرج ومشيت معه قليلاً فاذا أنا بموضعي الّذي كنت اعبد الله بالشّام وغاب الشّخص عن عيني، فبقيت معجباً حولاً ممّا رأيت.
فلّما كان في العام المقبل رأيت ذلك الشّخص فاستبشرت به ودعاني فأجبته ففعل كما فعل في العام الماضي، فلّما اراد مفارقتي بالشّام قلت له: سألتك بحقّ الّذّي اقدرك على ما رأيت منك اِلاّ أخبرتني من أنت؟ قال: انا محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام)، فحدثت من كان يصير اليّ بخبره، فتراقى ذلك الى محمّد بن عبد الملك الزيّات فبعث اليّ من أخذني وكبّلني في الحديد وحملني الى العراق وحبست كما ترى وادّعي عليّ المحال، فقلت له: ارفع عنك القصّة الى محمّد بن عبد الملك؟ قال افعل فكتبت عنه قصّة شرحت فيها حاله فرفعتها الى محمّد بن عبد الملك، فوقّع في ظهرها: قل له: الّذي أخرجك من الشّام في ليلة الى الكوفة ومن الكوفة الى المدينة ومن المدينة الى مكّة وردّك من مكّة الى الشّام ان يخرجك من حبسك هذا.
قال عليّ بن خالد: فغمّني ذلك من امره، فانصرفت محزوناً عليه ، فلّما كان من الغد باكرت الى الحبس لاعلمه الحال وآمره بالصّبر والعزاء فوجدت الجند وأصحاب الحرس وخلقاً عظيماً يهرعون، فسألت عن حالهم فقيل لي: المتنبّىء المحمول من الشّام افتقد البارحة من الحبس، فلا يدرى أخسفت به الأرض أو اختطفه الطّير، وكان عليّ بن خالد هذا زيديّاً فقال بالإمامة لمّا رأى ذلك وحسن اعتقاده.
مؤامرة الزّواج
حاول المأمون ان يظهر نفسه بمظهر المحبّ لأهل بيت النبيّ (ص)، وذلك لاحباط الاضطرابات الموجودة في المجتمع ولتهدئة ثورة العلويين وجلب حبّ الشّيعة والايرانيّين، ففرض ولاية العهد على الإمام الرّضا (ع)، لتنفيذ هذا الهدف من ناحية وجعل الإمام تحت الرقابة المباشرة من ناحية اخرى.
ومن جهة اخرى فقد كان بنو العبّاس غاضبين من أسلوب المأمون هذا وخائفين من احتمال انتقال الخلافة من بني العبّاس الى العلوييّن، ولهذا فقد نهضوا لمخالفته، ولمّا دُسّ السّمّ للإمام بواسطة المأمون واستشهد فقد اطمأنّوا وفرحوا واقبلوا على المأمون .
وقد حاول المأمون التّخفّي بقضيّة دسّ السّمّ للإمام وقام بذلك في سرّية تامّة وبذل كلّ جهده لئلا يطلّع المجتمع على هذه الجريمة النّكراء، ولكي يخفي جريمته تظاهر بالحزن والعزاء وأقام ثلاثة ايّام على قبر الإمام وآكل الخبز والملح، وعدّ نفسه المعزّى في هذه المصيبة، ولكنّه مع كلّ هذا التّخفيّ والرّياء فقد انكشف اخيراً للعلوييّن انّ قاتل الإمام لم يكن سوى المأمون، ولهذا تألّموا كثيراً وحقدا عليه. ومرة أخرى رأى المأمون الخظر يهدّد حكومته، وللوقاية والحماية فقد دبّر مؤامرة اخرى، واظهر للإمام الجواد (ع) حنانه وحبّه، ولكي يثبت هذا الامر عمليّاً وفي واقع الحياة فقد زوّجه من ابنته، وحاول ان يستفيد من هذه الصّلة ما كان يطلبه من فرض ولاية العهد على الإمام الرّضا.
وهكذا فقد نقل الإمام الجواد (ع) عام 204 هجريّة (أي بعد عام واحد من استشهاد الإمام الرضا (ع) من المدينة الى بغداد وزوّجه ابنته «امّ الفضل».
يقول الريّان بن شبيب: لمّا اراد المأمون ان يزوّج ابنته امّ الفضل أبا جعفر محمّد بن علي (عليهما السلام) بلغ ذلك العبّاسيّين فغلظ عليهم، واستنكروه منه، وخافوا انّ ينتهي الامر معه الى ما انتهى مع الرّضا فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الادنون منه، فقالوا ننشدك الله ان تقيم على هذا الامر الّذي عزمت عليه من تزويج ابن الرّضا فانّا نخاف ان يخرج به عنّا أمر قد ملّكناه الله عزّ وجلّ وينزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الرّاشدون قبلك، من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرّضا (ع) ما عملت فكفانا الله المهمّ من ذلك فالله الله أن تردّنا الى غم قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرّضا واعدل الى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.
فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل ابي طالب فأنتم السّبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان قاطعاً للرّحم، واعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف الرّضا (ع) ولقد سألته ان يقوم بالامر (أي الخلافة) وانزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
وأمّا أبو جعفر محمّد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل، مع صغر سنّه، والاعجوبة فيه ذلك، وأنا أرجو ان يظهر الناس ما قد عرفته منه، فيعلمون انّ الرّأي ما رأيت فيه .
فقالوا له: انّ هذا الفتى وان راقك من هديه فانّه صبيّ لا معرفة له ولا فقه فأمهله ليتأدب ثمّ اصنع ماتراه بعد ذلك. فقال لهم: ويحكم انيّ أعرف بهذا الفتى منكم وانّ أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وموادّه والهامه، لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدّين والادب عن الرّعايا الناّقصة عن حدّ الكمال، فان شئتم فأمتحنوا ابا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفت لكم من حاله.
وقالوا: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولانفسنا بامتحانه، فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشّريعة، فان اصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصّة والعامّة سديد رأي أمير المؤمنين فيه، وان عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب فى معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى اردتم.
فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم ، وهو يومئذ قاضي الزّمان على ان يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا الى المأمون وسألوه ان يختار لهم يوماً للاجتماع فأجابهم الى ذلك.
فاجتمعوا في اليوم الذي اتفّقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم وأمر المأمون ان يفرش لابي جعفر دست ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك وخرج أبو جعفر وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر فجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس فى دست متصّل بدست أبي جعفر عليه الصّلاة والسّلام.
فقال يحيى بن أكثم للمأمون: أتأذن لي أن أسأل ابا جعفر عن مسألة ؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): سل ان شئت.
قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): قتله في حلّ أو حرم، عالماً كان المحرم او جاهلاً قتله عمداً أو خطأ، حرّاً كان المحرم أو عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطّير كان الصّيد أم من غيرها، من صغار الصّيد أم من كبارها، مصرّاً على ما فعل أونادماً، في اللّيل كان قتله للصيّد أم في النّهار، محرماً كان بالعمرة اذ قتله أو بالحجّ كان محرما ؟
فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره. فقال المأمون: الحمد لله على هذه النّعمة والتّوفيق لي في الرّأي ثمّ نظر الى أهل بيته فقال لهم : أعترفتم الان ما كنتم تنكرونه؟ ثمّ أقبل على أبي جعفر (ع)فقال له: أتخطب يا أبا جعفر؟ فقال: نعم. فقال له المأمون: اخطب لنفسك جعلت فداك قد رضيتك لنفسي وأنا مزّوجك أمّ الفضل ابنتي وان رغم قوم لذلك .
فقال أبو جعفر (ع): الحمد لله إقراراً بنعمته، ولا اله اِلا الله اخلاصاً لوحدانيّته وصلّى الله على محمّد سيّد بريّته، والاصفياء من عترته.
أمّا بعد فقد كان من فضل الله على الانام ان اغناهم بالحلال عن الحرام، وقال سبحانه: {وَاَنْكِحُوا الاَيامى مِنْكُمْ والصّالِحينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَاِمائِكُمْ اِنْ يَكُونُوا فُقراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِه وَاللهُ واسعٌ عليمٌ }.
ثمّ انّ محمّد بن عليّ بن موسى يخطب امّ الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصّداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد عليها السّلام وهو خمس مائة درهم جياداً فهل زوّجته بها على هذا الصدّاق المذكور؟
فقال المأمون: نعم قد زوّجتك يا أبا جعفر امّ الفضل ابنتي على الصّداق المذكور، فهل قبلت النّكاح؟
قال أبو جعفر (ع): قد قبلت ذلك ورضيت به. فأمر المأمون ان يقعد النّاس على مراتبهم في الخاصّة والعامّة...
ثمّ امر المأمون... ووضعت الموائد فأكل النّاس وخرجت الجوائز الى كلّ قوم على قدرهم.
فلّما تفرّق النّاس وبقي من الخاصّة من بقي، قال المأمون لابي جعفر (ع) أن رأيت جعلت فداك ان تذكر الفقه الّذي فصّلته من وجوه من قتل المحرم لنعلمه ونستفيده.
فوافق الإمام على ذلك وشرح الموضوع بالتّفصيل
فقال المأمون: أحسنت يا أبا جعفر احسن الله اليك فان رأيت ان تسأل يحيى عن مسألة كما سألك فقال أبو جعفر (ع): ليحيى: أسألك ؟ قال: ذلك اليك جعلت فداك فان عرفت جواب ما تسألني واِلاّ استفدته منك.
فقال له أبو جعفر (ع): أخبرني عن رجل نظر الى امرأة في اوّل النّهار فكان نظره اليها حراماً عليه، فلّما ارتفع النّهار حلّت له، فلّما زالت الشّمس حرمت عليه، فلّما كان وقت العصر حلّت له، فلّما غربت الشّمس حرمت عليه، فلّما دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلّما كان وقت انتصاف اللّيل حرمت عليه، فلّما طلع الفرج حلّت له، ما حال هذه المرأة وبماذا حلّت له وحرمت عليه؟
فقال له يحيى بن اكثم: والله لا اهتدي الى جواب هذا السّؤال ولا اعرف الوجه فيه، فان رأيت ان تفيدناه.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذه أمة لرجل من النّاس، نظر اليها أجنبي في أوّل النّهار فكان نظره اليها حراماً، فلّما ارتفع النّهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلّما كان عند الظّهر اعتقها فحرمت عليه، فلّما كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلّما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الاخرة كفّر عن الظّهار فحلّت له، فلّما كان نصف اللّيل طلّقها واحدة، فحرمت عليه، فلّما كان عند الفجر راجعها فحلّت له.
قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدّم من السّؤال؟ قالوا: لا والله…، فقال: و يحكم انّ أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل، وانّ صغر السّن فيهم لا يمنعهم من الكمال
ولابدّ من الانتباه الى انّ المأمون مع كلّ تظاهره بالحبّ وريائه الكاذب بالصّداقة لم يكن له ايّ هدف من هذا التّزوج سوى اهدافه السيّاسيّة، ويمكننا ان نحدّد عدّة اهداف معينّة كان يقصدها:
1 ـ بارساله ابنته الى بيت الإمام (عليه السلام) قد جعله دائماً تحت مراقبة شديدة وأصبح مطلعاً على نشاطاته.
2 ـ كان يهدف من هذا الزّواج ان يجر الإمام الى بلاطه المرفّه المنحطّ بحيث يتعلّم منه اللّهو واللعب والفسق والفجور.
فقد احتال المأمون على أبي جعفر (عليه السلام) بكّل حيلة فلم يمكنه فيه شيء فلما أراد ان يبني عليه ابنته دفع اليّ مائة وصيفة من أجمل ما يكنّ الى كل واحدة منهم جاماً فيه جوهر يستقبلون ابا جعفر (عليه السلام) اذا قعد في موضع الاختان فلم يلتفت اليهن.
وكان رجل يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب، طويل اللّحية، فدعاه المأمون فقال: للمأمون ان كان في شيء من امر الدّنيا فأنا اكفيك امره فقعد بين يدي أبي جعفر (عليه السلام) فشهق مخارق شهقة اجتمع اليه أهل الدّار، وجعل يضرب بعوده ويغنيّ، فلّما فعل ساعة واذا أبو جعفر (عليه السلام) لا يلتفت اليه ولا يميناً ولا شمالاً، ثمّ رفع راسه اليه وقال: اتقّ الله يا ذا العُثنون ! قال: فسقط المضراب من يده والعود، فلم ينتفع بيده الى ان مات
3- ان يكفّ العلويّين من الثّورة ضدّه والاعتراض عليه، ويظهر نفسه بمظهر المحّب والصديق لهم.
4 ـ خداع العامّة، فقد كان يصرّح احياناً : انني أقدمت على هذا التّزويج حتى يكون لابي جعفر (ع) من ابنتي طفل فأصبح جدّ طفل من نسل النّبيّ (ص) وعليّ بن أبي طالب (ع)
ومن حسن الحظّ ان لعبة المأمون هذه لم تنجح، وذلك لان ابنته لم تلد ايّ مولود، وجميع أبناء الإمام الجواد (ع) (الإمام العاشر علي الهادي (ع) وموسى المبرقع والحسين وعمران وفاطمة وخديجة وام كلثوم وحكيمة) قد ولدوا من زوجة اخرى للإمام وهي امّة حسنة السّيرة جليلة القدر تُسّمى «سمانة المغربيّة»
وعلى كلّ حال فالمأمون الّذي كان يصرّ كثيراً على هذا الزّواج لم يكن يهدف منه الى شيء سوى اهدافه السّياسيّة، ومع انّ هذا الزّواج ملازم للحياة المرّفهة الرّغيدة لكنّه لم تكن له قيمة عند الإمام الجواد (عليه السلام) لانّه مثل آبائه الكرام لم يكن مهتمّاً بالدّنيا ولا يجذبه رزقها وبرقها، بل الحياة مع المأمون اساساً كانت مفروضة عليه وتحمل له الالام والغصص.
تلامذة مدرسة الإمام الجواد (عليه السلام):
جرى أئمتّنا الطّاهرون على سنّة النّبيّ الأكرم (ص) في بذل اقصى الجهد لتربية وتعليم النّاس، وينبغي الالتفات الى انّ علمهم هذا لا يمكن مقارنته بعمل المؤسّسات التّعليميّة، وهم يعلّمون من يتّصل بهم بأقوالهم وافعالهم و أسلوب معاشرتهم وبكلّ ابعاد حياتهم اليوميّة.
ومن الواضح انّ مثل هذه المدرسة لم تتيسّر اطلاقاً في ايّ مكان سوى عند الانبياء والأئمّة (ع)، ومن الطّبيعي ان تكون ثمار هذه المدرسة رائعة ومباركة، ومن هنا حاول الخلفاء الامويّون والعبّاسيّون بكلّ ما يستطيعون ان يحولوا دون اتصال النّاس بقادة الإسلام الواقعيّين بصورة حرّة.
1 ـ عليّ بن مهزيار:
وهو من جملة الاصحاب المقرّبين للإمام الجواد (عليه السلام) ومن وكلائه، ويعتبر ايضاً من أصحاب الإمام الرّضا والإمام الهادي (عليهما السلام).
كان كثير العبادة، ونتيجةً لسجوده الطّويل فقد بدت آثار السّجود في جبهتة. فقد كان يسجد من طلوع الشّمس ولا يرفع رأسه من ذلك السّجود حتّى يدعو لألف شخص من المؤمنين ويطلب من الله تعالى لهم ما يطلبه لنفسه.
وكان عليّ بن مهزيار يعيش في الاهواز وقد ألفّ ما يزيد على ثلاثين كتابا وقد وصل في مراتب الايمان والعمل الصّالح الى درجة راقية بحيث كتب اليه في احدى المرات الإمام الجواد (عليه السلام) رسالة تقدير وتكريم نتبرّك هنا بذكرها:
«بسم الله الرّحمن الرّحيم، يا عليَ أحسن الله جزاك، واسكنك جنّته ، ومنعك من الخزي في الدّنيا والاخرة وحشرك الله معنا. يا عليّ قد بلوتك وخبرتك في النصيحة والطّاعة والخدمة والتّوقير والقيام بما يجب عليك، فلو قلت: انيّ لم أر مثلك، لرجوت ان اكون صادقاً، فجزاك الله جنّات الفردوس نزلاً، فما خفي عليّ مقامك ولا خدمتك في الحرّ والبرد، في اللّيل والنهار، فأسأال الله اذا جمع الخلائق للقيامة ان يحبوك برحمة تغتبط بها انّه سميع الدّعاء»
2 ـ احمد بن محمّد بن ابي نصر البزنطي:
وهو من اهل الكوفة ومن جملة خواصّ أصحاب الإمام الرّضا والإمام الجواد (عليهما السلام)، وكان رفيع المنزلة جدّاً عند هذين الإمامين المعصومين، وقد ألفّ عدّة كتب، من جملتها كتاب «الجامع»، ويعترف بفقاهته جميع علماء الشّيعة ويطمئنّون بوثاقته
وقد رافق هذا الرّجل ثلاثة اشخاص آخرين في زيارة للإمام الرّضا (ع)، وقد اظهر لهم الإمام حبّاً خاصّاً واحتراماً فائقاً
3 ـ زكريّا بن آدم:
وهو من أهل قم، ومزاره اليوم في مدينة قم معروف ومشهور ، ويعد من الاصحاب المقرّبين للإمام الرّضا والإمام الجواد (عليهما السلام)، وقد دعا له الإمام الجواد (عليه السلام) وعدّه من جملة أصحابه المقرّبين
4 ـ محمّد بن إسماعيل بن بزيع:
وهو من أصحاب الإمام الكاظم والإمام الرّضا والإمام الجواد (عليهم السلام) ، ويعدّ من جملة الموّثقين عند الشّيعة.
وكان رجلاً صالحاً حسن السّيرة ومن أهل العبادة وقد ألّف كتباً، وهو في نفس الوقت يعمل في بلاط العبّاسيّين وقد قال له الإمام الرضّا (عليه السلام) فيما يتعلّق بهذا الامر: «انّ للهِ تعالى بأبواب الظّالمين من نوّر الله له البرهان، ومكنّ له في البلاد، ليدفع بهم عن أوليائه، ويصلح الله بهم أمور المسلمين، اليهم ملجأ المؤمن من الضّر، واليهم يفزع ذو الحاجة من شعيتنا، وبهم يؤمن الله روعة المؤمن في دار الظّلمة، اولئك المؤمنون حقّاً، اولئك أمناء الله في أرضه اولئك نور في رعيّتهم يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل السّماوات كما تزهر الكواكب الدّرية لأهل الأرض، اولئك من نورهم يوم القيامة تضىء منهم القيامة، خلقوا والله للجنّة وخلقت الجنّة لهم، فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كلّه».
اسْتِشْهادُ الإمام الجواد(ع)
عن زرقان ، صاحب ابن أبي دؤاد ، وصديقه بشدة ، قال : رجع ابن أبي دؤاد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتم ، فقلت له في ذلك ؟ فقال : وددت اليوم إني قد مت منذ عشرين سنة ، قال : قلت له ولم ذاك ؟ قال : لما كان من هذا الأسود ، أبي جعفر محمد بن علي بن موسى (ع)، اليوم بين يدي أمير المؤمنين . . . . فأمر يوم الرابع فلانا من كتاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله ، فدعاه ، فأبى أن يجيبه ، وقال : قد علمت أني لا أحضر مجالسكم .
فقال : إني إنما أدعوك إلى الطعام ، وأحب أن تطأ ثيابي ، وتدخل منزلي ، فأتبرك بذلك . . . فصار إليه ، فلما أطعم منها ، أحس السم ، فدعا بدابته ، فسأله رب المنزل أن يقيم ؟ قال : خروجي من دارك خير لك ، فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفه حتى قبض.
يذكر محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله : ودفن [ أبو جعفر محمد بن علي الثاني (ع)] ببغداد في مقابر قريش عند قبر جده موسى (ع).
|